|
منوعات كما ضم منحوتات تدمرية أبدعها النحاتون السوريون منذ أكثر من ألفي سنة ، وكانت ملهمة نزار في إنجاز لوحات معرضه ، فبدت تلك اللوحات المعاصرة في رحاب المكان التاريخي كامتداد لإبداعات الفنانين السوريين الأقدم ، كما هي، وفي الوقت ذاته، استمرار لمسار تجربة لم تتوقف منذ ثلاثة عقود عن الحوار الخلاق مع الموروث المحلي بدءاً من أساطير الرافدين وحكايات الوادي و جلجاميش وأنكيدو ،مروراً - و دون تقيدها بتسلسل زمني - بزخارف أبواب البيوت في حارات دمشق القديمة، وسحر العمارة والزخرفة والضوء في مدن الشرق ، وروحانية الأيقونة ومزارات القديسين والأولياء، وعفوية الفن الشعبي كما تجلت في أعمال أبي صبحي التيناوي، وانتظام تصوير المنمنمات الإسلامية على يد فنان بارع كالواسطي..وصولا إلى تأثيرات المناخ البحري على جدران المدن الساحلية وانعكاس ضوء الشمس على الواحة التدمرية .. باختيار المتحف الوطني بدمشق مكاناً لمعرض معاصر يستلهم روح التراث ، ولا يستنسخ نتاجه، دعوة غير مباشرة للتعرف على ثمانية آلاف سنة من الحضارات التي قامت على الأرض السورية، والتي يحفظ المتحف بعضاً من شواهدها ليكون بذلك الرد الباتر على آراء تعتبر التصوير والنحت وافداً غريباً على ثقافتنا. وتجيء أعمال نزار وبعض من سبقه من معلمي الفن السوري الحديث ، وبعض أبناء جيله وأجيال تالية له، لتصل ما انقطع مع تراثنا الفني برؤية معاصرة لا تتملكها عقدة النقص أمام مفاهيم الفن الغربي، ولكنها وفي الوقت ذاته لا تقف موقف العداء لذلك الفن إيماناً منها أن ما يبدعه الإنسان هو لكل الإنسانية، وأن تاريخ الحضارة البشرية قد كتب بتكامل حواضر شتى.. رحلة نزار التي ترسو اليوم في المرفأ التدمري تجلب معها موهبته التأليفية التي طورها بدأب ومعرفة وخبرة متنامية،وقدراته التقنية الباحثة دوماً عن تأثير بصري بذاته، وألوانه التي صنعها من الرماد والرمل والخشب المحترق وبقايا الزيتون المعصور..وتستحضر من المكان وجوه المنحوتات الجدارية، ولون ضوء الشمس المنعكس على التراب والمتغير بتغير ساعات النهار مبتدئاً بلون يجمع الرمادي إلى الأزرق حتى يصل وقت المغيب إلى لون برتقالي نادر وقوي التأثير بالآن ذاته ، في اللوحة كما هو في الواقع..لا تدعي لوحة نزار أكثر مما يحق لها أن تدعيه، فهي لا تقدم حكاية عن هذه المدينة الرائعة الخالدة رغم تدميرها، ولا توثق لنظامها وقوانينها وحياتها اليومية، وهذه ليست مهمة الفن على كل حال،وإنما تلتقط بعين مرهفة فلسفة الجمال في إبداعات أبنائها، وأثر المكان والزمان على هذه الفلسفة وتلك الإبداعات..وتعيد صياغتها برؤاها الخاصة التي تنتمي بآن معاً إلى ذلك التاريخ الحضاري، وإلى زماننا المعاصر..وهذا الانتماء المزدوج ظل نزار أميناً له منذ بدأ رحلته في التراث كابن فخور به ، لا كسائح مبهور فيه.. ولأن لوحته تهرب من التكرار وتبحث عن المبتكر حتى حين تجريبها الاحتمالات الكثيرة للفكرة الواحدة، فإنها لا تقدم للمشاهد ما يألفه أو يتوقعه ، ولكنها في الوقت ذاته لا تدير ظهرها له.. إنها تدعوه للتأمل والتفكير والحوار ، وللبحث في جوهر الأشياء وتحسس القيم الجمالية التي انتقلت جيلا إثر جيل عبر آلاف السنيين. |
|