تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


فدوى طوقان .. موسم »العكوب « كان شهادة ميلادها

ثقافة
الخميس 2/10/2008
بثينة رشيد

عندما سألت فدوى والدتها عن تاريخ ميلادها كانت الإجابة »يوم كنت أطهو العكوب « فالوالدة كجميع الناس في فلسطين كانت تعين الوقائع بأحداث بارزة في حياتها, قتقول عام الثلجة الكبيرة أو عام الجراد أو عام الزلزال, وهكذا ..

وتذكر الوالدة أنه في ذلك العام استشهد قريب لها كما تم فيه القبض على والد فدوى ,ونفيه إلى مصر من قبل جيش الاحتلال الإنكليزي لرفضه وعد بلفور المشؤوم ,وبما أن العكوب كان يغطي جبال نابلس في أشهر شباط وآذار ونيسان فقد عينت الشاعرة طوقان تاريخ ميلادها في ربيع 1917 ..‏

رماها بوردة فأصبحت شاعرة :‏

فتاة تلف طفولتها وتمضي بها إلى طريق المدرسة , تشبك يدها حقيبة وتتحرك بخطوات تترنح ما بين القلق والفرح ,فقد كان الخوف يهيمن على أعصابها ,كأي فتاة في ذلك الزمان فتتلبك في مشيتها ,ويخضب صفاء وجهها الخجل ,فعلى الطريق عيون تراقب ,تتابع وجاهزة لنقل الأخبار .وفي أحد الأيام حصلت صدفة, حيث شاركت خطواتها خطوة سبقتها قفزات من دقات القلب , ويد ترتعش ,تترقب الفرصة لترمي وردة فتسرع العيون بالتقاط وحبك القصة .. فالفتى رمى فدوى بفلة ,وما على الأخ الأكبر»يوسف« إلا أن يأخذ القرار ,فتصبح بعده حبيسة الدار وحبيسة الجدران .. ترى الأقلام والأوراق والكتب المدرسية فتخنقها الدموع ,وتسرح العيون في طريق يضج فرحا بصوت العائدات من المدرسة .‏

تحاول الانتحار مرات فتفشل ..تعود إلى الحياة فتكتب شعرا .. تتعثر ..تعاني ..ولكنها تقاوم وتصمد ,ويقف أخوها »ابراهيم طوقان « إلى جانبها يدعمها ويشجعها وتبدأ بعد ذلك انطلاقها في كتابة الشعر والكلمات .‏

حلم يتحقق :‏

إن حرمانها الدراسة والأحداث الأليمة التي حدثت لبلادها أثناء وبعد ولادتها طبع حياتها بالوحدة والعزلة ,وجعلها تشعر لسنين عديدة بالكآبة والحزن كما التمرد .فكانت كتابة الشعر لفدوى بمثابة روح تمدها بالنجاة فعاشت حالة الشغف به والمشي بشوارعه لتسرق تنهيدة طريق وترش على الحروف حبات عطر تسكنه مواعيد الصدى لصوت حضن أسرارها وغرق في صمت حزين :‏

تلوذين في لهف ضارع‏

بكون تسامى نقي الصور‏

بلى ,هي هذي المآسي الكبار‏

تعذب فيك الشعور الرقيق‏

رغم ترعرع فدوى في بيت يعيش النضال ويعايشه فوالدها كان ينتمي إلى التيار القومي الذي رأى أنه من الأفضل البقاء في إطار الإمبراطورية العثمانية وأن الخطر الحقيقي قادم من الإمبرياليين الأوروبيين ,أما أخوها إبراهيم طوقان فهو شاعر فلسطين المعروف بالثورة والنضال .. إلا أن هذا الجو العائلي المغمور بالمشاعر الوطنية القومية والوعي والسياسي لم يخترق روحها ولا نفسيتها ,وعندما طلب والدها بأن تكتب شعرا يحاكي الأحداث كما كان يفعل »ابراهيم «الذي توفي عام 1941 ,حاولت الاستجابة ولكن أعماقها التي عانت عنف التقاليد الاجتماعية وقسوتها .. كانت تحتج وتأبى ..وتسأل كيف سيتسنى لي الكتابة عن هموم الوطن وثوراته وأنا لا أستطيع أن أشارك فيها وأن أخوض معانيها ,ولذلك لم تلبي إلا نداء ذاتها وروحها وقد وهبتهما للصدق والحرية فكان شعرها في بدايته ذاتيا ويعبر عن اكتشاف الأنثى لخصوصيتها فلا يتمرد ويتوضأ إلا بما هو مرئي ومحسوس :‏

وما الشعر إلا شكاة الروح إن يئست‏

وإن تغنت فترجيع وألحان‏

والذي حصل أنها لم تكتب شعرا يردد صدى أوجاع الوطن وناسه إلا بعد انخراطها فعلا بالحياة الاجتماعية والسياسية, لذا لم يكن شعرها إلا مرآة الاندفاع نحو الصدق والغوص في بحر الحقيقة فرفض أن يهادن كما هادنت شخصيتها الظلم الاجتماعي بل كان تواقا للانبعاث, لصيقا بأناها الخاصة التي تؤمن بأن التطور والتغيير يجب أن يسود كل شيء‏

متى يا ابنة الوهم تستيقظين‏

متى ينجلي عنك هذا الخيال‏

ألست من الأرض ? فيم انخطافك ? فيم انجذابك نحو الأعالي‏

فتنأين عن واقع راعب‏

إلى عالم عبقري سحيق‏

هو الوهم ,عالمك الشاعري ,المثالي ,مسرى الخيال الطليق‏

والحدث الأبرز الذي أخرجها من ذاتيتها كان عام الهزيمة 1967 واحتلال مدينتها نابلس ,فالنكسة أعادت إليها وجودها ككيان اجتماعي يتحسس ويتفاعل مع الاحداث ويعتبرها جزءا منه »ليعطيها حبا« :‏

كيف عبرت حقول الصقيع‏

بهذا التوهج ,هذا السطوع البديع‏

لقد عبرت صقيع ذاتها بحرارة الأحداث الملتهبة وأوجاع الوطن ..ولكن نبض الشعر فيها أبى الركون إلى واقع طارىء كل ما فيه جنون وعبث وندب ونواح ,فكانت الأمنية رمزا للتمرد عليه ,فليت هذا الكوكب الأرضي فنجان قهوة تقلبه بين يديها لتزيح سواده وتعيد إليه الضوء :‏

لو بيدي‏

لو أني أقدر أن أقلب هذا الكوكب الأرضي أن أفرغه من كل الشرور‏

أن أقتلع جذور البغض‏

وكما هو واضح فإن شعرها الوطني لم يبتعد عن الذاتي في مفرداته بل كان احتجاجا أنثويا مضاعفا تؤرقه هموم آنية تختلط مع قسوة هموم لا حدود لها :‏

أنظر إليهم من بعيد‏

يتصاعدون إلى الأعالي, في عيون الكون هم يتصاعدون‏

وعلى جبال من رعاف دمائهم‏

هم يصعدون ويصعدون‏

لقد كتبت فدوى شعرها ولفترة طويلة على نسق الشعر القديم ولكنها اقتنعت فيما بعد بقصيدة التفعيلة لتعبر فيها وبشكل أقوى عن فكرها فقد كانت تؤمن بأن التغيير عندما يحدث عليه أن يشمل كل شيء فكيف بالأدب والشعر الذي تعتبره بركان الخلاص لأنه الأقرب إلى لظى النفس ولهيبها : وتكتب عن هذا في كتابها (رحلة جبلية ..رحلة صعبة )‏

ما دام النزوع إلى التغيير هو قانون الحياة ,فلابد للشعر إذن أن يدركه هذا القانون ,فالجمود مستحيل وحين نطالب الشاعر بالاحتفاظ بصفة الثبوت لمبنى القصيدة ,فكأنما نطالبه بما هو ضد طبيعة الأشياء ,بما هو ضد قانون الحركة والتطور‏

ولكن شاعرتنا الكبيرة تتحفظ حتى على الشعر الحديث فتنبه من اجترار وتكرار الذات .. خصوصا أن مشكلات التراكم والتناقض والتي بسببها انتفضت قصيدة التفعيلة على الشعر العمودي قد لحقته هي الأخرى بالتفعيلة وأرهقتها, وقد كان مرد هذا الحذر شعور عميق بأن قدر التغيير لا يختص بنمط شعري دون غيره أو نمط حياة دون غيرها .. بل هو تاج هوائي يقفز في كل زمن إلى مخيلتنا يدخل عوالمنا وما هو خارج عوالمنا .. يفاجئنا ,يقلب مشاعرنا ,ويمدنا بالصعود ,ولا يكون الخلود إلا لحالة الاشتياق نحو الجمال والكمال .ولهذا لم تفتن الشاعرة بالشكل بقدر ما فتنت بماهية جمالها وغناها بالحس والحدس الإنساني فكان شعرها ترجمة لهذه الشفافية وترديداً صادقا لصدى صوتها .. صوت يحتج بهمس ,ويحاور بنضوج وجرأة حتى العدم :‏

ما زلت أحاور مالم يوجد‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية