|
مجتمع ثم طلب منها الخروج، لينام قيلولته، كونه كان يريد العودة لعمله مجددا عند الخامسة.. فامتثلت لرغبته، و خرجت لقضاء بعض الحاجات ، ولدى عودتها إلى البيت، صعقت بمشهده معلقاً على حبل شنق به نفسه. وأضافت الزوجة بحيرة، أنها لا تعرف سبب إقدامه على الانتحار بهذا الأسلوب، ولكنها استدركت القول: إنه كثيراً ما ردد أمامها عبارات كرهه لحياته، إلى حد مقته لنفسه و لكل من حوله نظراً لضيق ذات اليد. شقيق المتوفى، أشار من جهته إلى معاناة شقيقه الأسرية، ووقوفه عاجزاً عن تقديم الرعاية و العون لآخر عنقود أولاده ، ابنه محمد المصاب بالشلل الدماغي، ناهيك عن اعتلال صحة شقيقه المتوفى، إذ أسعف قبيل نحو شهر من انتحاره، إلى المشفى العمالي، و هو بحالة من ضيق التنفس، إثر قيامه بتنظيف ريكار نفطي في مكان عمله، ما خلف لديه آلاماً مبرحة في معدته، لم يشف منها حتى تاريخ الوفاة، الأمر الذي أثار هواجسه- ربما- بأنه معرض للاستغناء عن خدماته . حكايات موت معلن طبعاً نحن لا نريد من سرد هذه المعاناة، تبرير انتحار زياد، وإنما قرع ناقوس الخطر، أمام حكايات موت معلن. وفي حقيقة الأمر، نحن اخترنا هنا التطرق لهذا الموضوع الآن، نظراً لتزايد حساسيته الاجتماعية من جهة، وتصاعد أرقام ضحاياه، يوماً إثر يوم. ولا سيما بين أبناء الجيل المراهق بين 13-17 سنة و الشباب بين 18-40 سنة، ما يعني تبديد جزء لا يستهان به من الطاقات الشابة، وتسرب مخرجات الخطط التنموية نحو العدم، هذه المشكلة التي باتت تقلق على المستوى العالمي دولاً عظمى كأمريكا وبريطانيا، التي صرحت في أكثر من موقع الكتروني عن قلقها إزاء ارتفاع معدلات الانتحار بين المراهقين والمراهقات من طلاب المدارس، و آخر الدراسات كشفت النقاب عن ارتفاع معدلات الانتحار بشكل ملحوظ بين الشباب الذين شاركوا الجيش الأميركي الغاشم في غزو بغداد. كذلك في جيش العدو الاسرائيلي، هناك إشارة بيّنة إلى ارتفاع معدلات الانتحار بين الذين التحقوا للخدمة فيه.. الفردوس المفقود المشكلة على ما يبدو عالمية، ومن المفارقات أن تعاني منها الدول العظمى، بأكثر مما تعاني البلدان النامية، المحصنة (حسب وجهة نظر الأستاذ يوسف محمد، استاذ مادة التربية الدينية) بروادع قيمية، تلجم رغبة أي مؤمن بالانتحار، إذ كان يناشد الخلاص، فالموت في ايديولوجيا الأديان المختلفة، (بوابة عبور) إلى حياة الخلود الأرحب، حيث الانسان مخير في حياته الدنيا، بين طريقين أحدهما يودي به من خلال أعماله إلى الجنة، و الثاني يودي به أيضا من خلال أعماله إلى النار. وبالتالي فان طريقه السالك إلى الفردوس المفقود، يتطلب منه التمسك بالايمان، والتحلي بالصبر والتسلح بالارادة والعزيمة التي لا تلين في مواجهة مختلف تحديات الحياة، حتى يبلغ كل حي أجله المسمى، وترجع كل نفس مطمئنة إلى باريها.. شبكة أمان اجتماعي السيدة نسرين دواي، العاملة كمرشدة نفسية، في مدرسة حكومية، نظرت إلى الأمر بمنظار مختلف وعزت انخفاض نسبة الانتحار في البلدان النامية، قياساً بالبلدان العظمى، إلى التمسك الشعبي بخيارات التكافل و التعاضد الأسري، في مواجهة تحديات الحياة، من خلال تمتين أواصر الأسرة الصغيرة، بوشائج الأسرة الكبيرة، من جهة بالمجتمع كنطاق أرحب، من جهة أخرى فرعاية أهل الخير من الأسر الموسرة، للأسر الفقيرة، تطوعاً تشكل شبكة أمان اجتماعي تحصن الأفراد من القنوط و الانتحار.. الوقوع في العدمية والنسيان وقبل أن نخوض عميقا في فلسفة موضوع الانتحار، دعونا نقدم بداية تعريفاً، هذا التعريف الذي لخصه الباحث الاجتماعي آذار عبد اللطيف بالقول: انه هروب سلبي من حيوية الحياة بالوقوع في العدمية و النسيان، دون أن يترك المرء ،بصمة واضحة في متن هذه الحياة التي تستحق رغم كل المحن أن تعاش. ضبابية الأرقام ولو حاولنا بعد ذلك التعريف، أن نرصد ظاهرة الانتحار في المجتمعات بالأرقام.. فيمكن القول أنه لا رقم موثوقاً أو واضحاً يمكن اعتماده في مجتمعنا لغاية الآن.. ولا سيما أن العديد من حالات القتل التي قدمها لنا القاضي المستشار موفق اليغشي، كانت تقدم في عدة دعاوى، على أنها حالات انتحار، بغية التملص من المساءلة الجزائية والقانونية، أضف إلى ذلك حالات الحض أو التحريض على الانتحار في جرائم الشرف، التي وضع لها المشرع عقوبة جزائية، منصوص عنها في قانون العقوبات، حسب ظروف، و أدلة، وقرائن كل قضية.. الغاية لا تبرر الوسيلة تعددت الوسائل والموت واحد، مقولة أكدها لنا الدكتور سامر خضر، من إسعاف مشفى دمشق، ورئيس رابطة طب الطوارئ مشيراً إلى أساليب متعددة يلجأ إليها المنتحرون الذين أسعفوا للمشفى في إزهاق الروح، و غالبها التسمم الدوائي، بالافراط في تناول علبة كاملة من الفاليوم أو الحبوب المهدئة، أو الحرق، أو الشنق، أو الصعق بالكهرباء، أو إطلاق النار، أو رمي النفس من شاهق أو تعريض النفس للدهس، إلى آخر ما هنالك من وسائل انتحارية، سيدها مبيدات الحشرات (هالك) أو المبيدات الزراعية أو حبة الغاز المنتشرة في قرى إدلب على سبيل المثال، وفي إجابة عن السؤال: هل تدخل حالات التسمم الدوائي، ضمن إحصائياتكم في المجال الصحي، على أنها حوادث انتحار؟ أجاب دكتور سامر : رغم تكتم أهل وذوي المسعف، بأن الحالة مجرد تسمم دوائي، وليست انتحاراً، تكشف المعاينة والكمية المفرطة المتجرعة من دواء معين أو دواءين أن الحادثة انتحار بيّن، وهنا يشير الدكتور سامر إلى الابتزاز الذي يبدأ من قبل بعض النفوس الضعيفة، التي تستغل الوضع الاجتماعي للأهل، و حساسية موضوع الانتحار ودلالاته في المجتمع فتدون الحالة على أنها مجرد تسمم دوائي أو غذائي قطعاً لدابر الألسن و الثرثرة، وتحويل الضبط في الحادثة إلى أقسام الشرطة، ليقع ذوو المسعف بين سين وجيم.. ويشير الدكتور سامر إلى الأمراض النفسية (كالاكتئاب الحاد، والانفصام والتوحديين) التي غالباً ما ينتهي مرضاها بالانتحار نتيجة خلل مرضي في كيميائية الدماغ.. الوصمة الاجتماعية كل ذلك وسواه كالإدمان الذي لا بد أن يودي بصاحبه إلي التهلكة في طرق أخرى للانتحار، تم تحصين الجيل منها (كما علمنا من السيدة أليسار فندي) المرشدة النفسية في المرصد الوطني لعلاج الشباب بمنتهى السرية و الحرص من حالات هذا الادمان. لكن المشكلة أن إقبال الأهالي على هذه المراكز ليس بالمستوى المطلوب، تماماً كما إقبالهم على الطبيب أو المرشد النفسي، بسبب الخوف من «الوصمة الاجتماعية» التي قد تلحق بمرتادي هذه المراكز أو العيادات النفسية والارشادية.. فنحن لا نزال أناساً نتمسك «بالبريستيج» الاجتماعي، ولو كانت النتيجة الهلاك بالإدمان أو الانتحار.. وفي حقيقة الأمر كل ما ذكرناه من وسائل انتحارية، وطرق تؤدي إليه كالارهاب والادمان بكل صوره (الكحولي.. والمخدرات.. و لعب القمار.. و النساء..) قد يرفع من معدلات الانتحار في إحصائيات غير رسمية، تتسم بالضبابية، و لا تنم عن الواقع في شيء.. و أمام هذه السديمية والعدم، يبقى من الأجدى أخيراً أن نبحث في سبيل تحصين أبناء الجيل، من التردي في وادي الانتحار، و مناقشة كيف نغرس فيهم (بالمواجهة) عشق الحياة. وهذا مجال سنعد له بحثاً آخر. |
|