|
فضاءات ثقافية أداتها الفكر وفقط.. فكر يواجِه بالحوار.. بالرأي الذي يُطرح سبيلاً أوحدَ قُبالة رأي آخر مخالف.. وصولاً إلى الارتقاء والمزيد من الالتقاء مع الآخر أياً كان. لهذا وبكثير من الثقة دعت الفيلسوفة الأميركية جوديث باتلر منتقديها إلى محاورتها والدخول في نقاش معها إثر موجة الانتقاد التي قاموا بها بعد حصولها على جائزة أدورنو الألمانية الفلسفية، التي تُمنح في مدينة فرانكفورت منذ عام 1977، مرة كل ثلاث سنوات في الحادي عشر من أيلول احتفالاً بذكرى ميلاد الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو في مجالات الفلسفة والموسيقا والمسرح والسينما. فتعالت أصوات الاحتجاجات اليهودية وثار المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا، والحجة الجاهزة والمتكررة أبداً في وجه من يعترض سبيل سياساتهم (معاداة السامية).. التهمة التي وجهت إلى باتلر بسبب مواقفها المناهضة لإسرائيل. ويعود الصدام الأول بينها وبين دولة الكيان الصهيوني إلى عام 2002 حين دعمت باتلر بشكل صريح حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها. معركة التشهير والتحريض ضد باتلر يتزعمها تيار خطير من اليهود الأميركيين الذين يكافحون حرية التعبير هناك.. وكانت بدأت بمقال في صحيفة (جيروزاليم بوست ).. فكتبت الفيلسوفة ردّاً مطوّلاً لم تنكر فيه أنها جزءٌ من حملة مقاطعة إسرائيل كنوع من الرد على سياسات الصهاينة في فلسطين ضد المدنيين. انتقدت باتلر احتكار إسرائيل الحديث باسم اليهود في العالم، وكانت الأخلاقيات اليهودية هي الأساس الذي شكّل مدخلها إلى الفلسفة، تقول: ( ربما لم يكن عليّ أن أكون مندهشة من لجوء البعض إلى تلك الاتهامات المسيئة والتي لا أساس لها من الصحة ليبرهنوا على وجهة نظرهم. إنني باحثة حصلت على مدخلي إلى الفلسفة والفكر اليهودي، وأنا أتفهّم ما أقوم به كدفاع واستكمال للفكر والتقاليد اليهودية الأخلاقية). و ضمن الرد ذاته أعادت تأكيدها: (لا يمكنني أن أؤيد دولة العنف إسرائيل، لم ولن يمكنني أن أفعل ذلك). ومما زاد في سعير الحملة الصهيونية التي قامت ضد باتلر.. موقف آخر لم يزل في ذاكرة معارضي حصولها على الجائزة الذين طالبوا بسحبها منها.. تمثل بإجابتها في مؤتمر ما بعد حرب لبنان بكلمة (نعم) على سؤال عمّا إذا كانت تعتبر حماس وحزب الله من اليسار العالمي. من أهم الأسباب التي ذكرتها لجنة الجائزة وجعلتها تقرر أن باتلر تستحقها يعود إلى مسائل الهوية التي كتبت فيها الفيلسوفة والتي تُقرأ في جميع أنحاء العالم.. وأن ما أثارته عبر فكرها يؤدي إلى فهم جديد لقضايا الجنوسة والذات والتفكير النقدي. مع ذلك بقيت مسألة فلسطين مركزية في النقد الفكري لدى باتلر.. وهي هنا تحديداً تُذكّر بالمفكر إدوارد سعيد الذي كان من أهم من لفتوا أنظار العالم إلى قضية فلسطين.. تأثرت به فطرحت أسئلة شبيهةً بتلك التي طرحها عن دور المثقف في تحقيق السلام والعدالة. تتساءل باتلر حول ما معنى أن يكون المثقف يهودياً؟ أو ما معنى أن يكون اليهودي مثقفاً؟ وما معنى مسؤولية المثقف اليهودي عما فعله تأسيس «إسرائيل» بالفلسطينيين، وأثر ذلك كله في ثقافة الفلسطينيين؟. في كل ذلك يبدو المهم أنها تدين الوحشية «الإسرائيلية» من منطلق مسؤوليتها الأخلاقية كمثقفة يهودية. الأمر الجوهري لدى باتلر هو الفصل بين كونها مثقفة يهودية وبين» إسرائيل» التي تسعى لأن تكون الممثل الوحيد لليهود، فتجادل باتلر بأن لا علاقة ضرورية بكون اليهودي يهودياً وبتأييده «لإسرائيل». مواقف باتلر تُذكّر أيضاً بالمفكّرة حنة آرندت التي ثارت في نهاية أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي على تأسيس دولة إسرائيل وعلى مفاهيم السيادة اليهودية.. وهي من اليهود العلمانيين الأكثر نقداً للصهيونية في القرن العشرين. |
|