تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ستون عاماً..و لم يأت (غودو) بعد.. !

ثقافة
الثلاثاء 27-8-2013
لميس علي

ينتظرونه.. و يزيدون في الانتظار.. بل يمعنون انتظاراً.. دون أن يأتي.. هل سيأتي.. ؟ لعلّه نسي أن يأتي.. ؟!

لكن ماذا عن ماهية هذا الآتي.. ثم ماذا عن تحوّل السؤال من إمكانية (الإتيان) إلى إمكانية (الوجود) من أصله.. ؟‏‏

إنه (غودو).. البطل الغائب بمسرحية صموئيل بيكيت الأشهر (في انتظار غودو)..‏

تعود ذكراها من جديد بمرور ستين عاماً على كتابتها. تحتفل بريطانيا بهذه المناسبة عبر استعادتها لبعضٍ من أعمال بيكيت القصيرة خلال شهر آب الحالي في مهرجان إدنبرة الدولي.. فيقدّم مسرح رويال كورت (ذلك الزمن).. وتُعرض على مسرح غاريك (وقع أقدام).. بينما يقدّم مسرح كوتسلو عرض (هدهدة).‏‏

حكاية العمل تدور، ظاهرياً، حول رجلين هما (فلاديمير) و (استراغون) ينتظران ثالثاً يدعى (غودو) لا يأتي..‏‏

فمن هو هذا الذي ينتظره الجميع و لا يأتي.. مَن هو هذا ال(غودو).. ؟‏‏

قوبلت المسرحية حين عُرضت أواخر خمسينات القرن الماضي، بآراء متعددة تصل حدود التناقض.. اختلف حولها النقاد و تباينت قراءاتهم و تقييماتهم لها ما بين الرائعة وصولاً إلى توصيفها بالتافهة.‏‏

ترجم بيكيت الأصل الذي كتبه بالفرنسية ما بين عامي 1948- 1949م، إلى اللغة الإنكليزية.. و يبدو أن ترجمته كانت بحدود العام 1953م، اعتماداً على اتخاذ الإنكليز هذا العام مناسبة للاحتفال بمرور الذكرى الستين لكتابتها بلغتهم.‏‏

يتناسل التساؤل المطروح على لسان شخصيات العمل حول إن كان (غودو) قادماً أم لا.. إلى خيط يطول من تساؤلات يطرحها جموع المتلقين و النقاد و الدارسين.. و لا تزل إلى يومنا هذا تُثار استفهامات عدة عن رمزية المسرحية.. البعض ذهب في تفسيرها إلى أنها تشير إلى الحرب الباردة بين الولايات المتحدة و الاتحاد السوفييتي.. و آخرون فسّروها نفسياً اعتماداً على فلسفة فرويد.. بينما منحها فريق ثالث بعداً دينياً تمثّل بالنزعة الإلحادية. شطّ البعض فيما فسّر معللاً اقتصارها على العنصر الذكوري كنوع من الدعوة إلى المثلية الجنسية.. حينها قال بيكيت: (إنهم يعقدون الأشياء البسيطة).. مع أنه هو نفسه كان قال في مقدّمة طبعة المسرحية: (لا أعرف من هو غودو. لاأعرف ما إذا كان موجوداً. لا أعرف إن كانت شخصيات المسرحية يؤمنون به أو لا. هؤلاء الذين ينتظرونه. كل ما أعرفه عرضته في المسرحية، وهو ليس بالكثير لكنه كافٍ بالنسبة إلي. قد لا يكون واضحاً عند البعض.. ).‏‏

(في انتظار غودو) هناك حالة من الانغماس بفلسفة الفكر الغربي التي سادت ما بعد الحرب العالمية الثانية.. حيث الجنوح كثيراً نحو كل ما هو غير عقلاني.. و لهذا تُعتبر مثالاً من أمثلة مسرح العبث.. و هو كمصطلح وضعه الناقد مارتن إسلين على الأعمال المسرحية التي كُتبت في خمسينيات و ستينيات القرن العشرين. بالأصل أُخِذ المصطلح من مقال للفيلسوف الفرنسي ألبير كامو كتبه عام 1942م، دارت فكرته حول رأيه من الموقف الإنساني الذي يراه عبثياً لا معنى له. مع الوقت أصبح المصطلح يطلق على مؤلفات الكتّاب التي تمتلئ باللاجدوى و اللامعنى و اللامعقول كما في أعمال: (بيكيت، يوجين يونسكو، جان جينيه، هارولد بينتر).‏‏

تأثر مسرح العبث بردود أفعال الشعوب من جراء ما عانته من الحرب العالمية الثانية.. التي زعزعت إيمان الإنسان بأهمية وجوده.. و بالتالي أوصلته إلى فكرة وجوده المهدد دائماً و الذي لا معنى له.‏‏

ظهر مسرح العبث كنوع من استعادة الإحساس المفقود عن طريق زرعه الدهشة و الصدمة.. خارجاً عن الأدوات و الأساليب التقليدية.. كنوع من الأشكال الفنية المبتكرة و غير المعتادة.‏‏

من سماته: عدم وجود صراع.. أفكاره غير متسلسلة.. الحوار غير متراتب أقرب إلى المونولوج الداخلي، يبقى غامضاً.. و لا تواصل بين الشخصيات لأن اللغة فيه تماماً تعبّر عن فشلها في الواقع الحي بتحقيقها التواصل الإنساني الناجح. فيه تنفتح اللغة على معانٍ كثيرة إذ لا تنحصر بأحادية التفسير.‏‏

بهذه الطريقة يتوازى مسرح العبث مع اللامعقول.. و تُعتبر مسرحية (في انتظار غودو) أكثر الأعمال تجسيداً لهذا النوع المسرحي.‏‏

ولد مؤلّف العمل، صموئيل باركلي بيكيت في (13)نيسان عام 1906، في دبلن- أيرلندا. درس اللغة الفرنسية و الإيطالية في ترينتي كوليج.. ثم سافر إلى فرنسا و درّس هناك الإنكليزية.. عاد إلى دبلن ليعمل في تدريس اللغة الفرنسية لكنه لم يحب العمل الأكاديمي فقدّم استقالته. كان بيكيت في أيرلندا حينما اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية فعاد إلى فرنسا واشترك في صفوف المقاومة هناك (كمراسل ومترجم).‏‏

أول أعماله كان (الهورو ايسكوب) ديوان شعري.. فيه اختزال لكل سوداويته التي عبّر عنها بمسرحه فيما بعد.‏‏

قدّم دراسة نقدية حول مارسيل بروست.. ثم نشر مجموعة قصصية.. تلاها روايته الأولى عام 1938م. آخر رواياته كتبها بالإنكليزية هي (وآت- 1945) و بعدها لم يكتب إلا بالفرنسية.. في مرحلة السنوات التالية كتب أهم مسرحياته و أبرزها (في انتظار غودو). له مسرحية صامتة ويتضح عبرها تأثره بالدراسات السيسولوجية و السيميولوجية.. و استعمل الصمت جزءاً في بنية حواره المسرحي العبثي.‏‏

من أعماله: (شريط كراب الأخير)، و(نهاية اللعبة) التي يرى النقاد أنها أكثر أهمية من حيث المضمون و التكنيك المسرحي من مسرحية (في انتظار غودو) التي بقيت الأشهر لديه.‏‏

هل يئس بيكيت من العثور على معنى للحياة.. من انتظار حصول هذا المعنى و قدومه.. هل تشي سوداوية الصبغة التي طغت على المسرحية على يأسه من حسم موقفه من الحياة.. ؟‏‏

ألا يوجد إيماءة مبطّنة تكمن في استمرارية وديمومة الانتظار.. ؟‏‏

في (انتظاره غودو).. ربما.. وظّف توالي عملية الانتظار.. كمخدّر (للأمل).‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية