تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الخارق للواقع القلق الوجودي في الأدب

ملحق ثقافي
25/ 9/ 2012
د. عبد الهادي صالحة:حظي الأدب الخارق للواقع Le fantastique في السنوات الأخيرة اهتماماً كبيراً لدى القراء والنقاد وأعدت دراسات عديدة وأنطولوجيات متنوعة وسلاسل أدبية خاصة بهذا النوع الأدبي. نشأ الخارق للواقع وترعرع في الرواية،

ثم انتقل إلى القصة وجرب فيها أهم تمثلاته للشرط البشري من خلال كبار مؤسسيه: هوفمان،‏

وتيوفيل غوتييه، وبروسبير ميريمي، وإدغار آلان بو، وشارل نودييه، وغي دو موباسان، وبرايم ستوكير، وهنري جيمس، ولوفير كرافت، وفرانز كافكا الذين دشنوا أدباً فانتاستيكياً جديداً متجذراً في الخيال، ويعمل بآليات جديدة ومواضيع متنوعة ومختلفة: بناء لعبي للحبكة، تجاوز لقوانين السببية الزمانية والمكانية، تجاور أو اختلاط الموضوعي بالذاتي، الاشتغال على الأساطير وتوظيفها لتفسير الحالات النفسية الخاصة.‏

بسط العقل سلطانه في القرن الثامن عشر وأصبح وزن الأحكام المسبقة أقل ثقلاً، وفقدت الخرافات حظوتها، وحتى فكرة الوجود طرحت للنقاش وللبحث. ومع ذلك فإنه من الواضح، رغم تقدم الفكر العلمي، أن رغبة أن يكون العالم أكثر مما تدركه حواسنا منه لم تمت. في الواقع، شهد القرن التاسع عشر- عصر الخارق للواقع الكبير- على المستوى العلمي والفكري مناخ أزمة وحركة اتهام جديدة أطلقت بانتشار النظريات التطورية الداروينية، وتشاؤم شوبنهور، ورفض النموذج الوصفي وتطور العلوم النفسية. وبدا الإنسان والعالم محكومين بانحلال وبانحطاط ثم بنهاية محتومة، وبدت الأنا التي تكونه بعيدة المنال ومنقسمة ويستحيل ضبطها. يضاف إلى هذه الاكتشافات تراجع ملحوظ جداً للإيمان الديني. لقد أصبحت الأزمة الفردية موضوعاً رئيسياً ينظر العلم إليها ويعكسها مناخ تاريخي غير محدد وتغذيها سلسلة من الانقطاعات في المجالات الدينية والفنية والفلسفية.‏

طرحت هذه الأزمة للبحث من جديد المفهوم الذي يحمله الإنسان عن نفسه. إن نظرية التطور المقرونة بنظرية الوراثة، والتشابه والتماثل بين الجنون والعبقرية التي نادى بها لومبروزو، ونظرية الكوارث انتهت بزعزعة استقرار الفنانين، وخلقت فكرة عصاب غالباً ما ارتبط بأدب «نهاية قرن» وبالحركة المنحطة في هذا العصر.‏

في الواقع، إن نظريات داروين التطورية، والاكتشافات الفلكية والفيزيائية، ومذهب شوبنهور الفلسفي، ونظريات التحليل النفسي حول اللاوعي والأحلام والهذيان والعبقرية والعامل الوراثي أو التنويم المغناطيسي، وكذلك الاهتمام بتاريخ الحضارات والأديان غيرت بعمق المفهوم الذي يحمله الإنسان عن نفسه، وأعيد النظر بشكل متزامن بأعمدة الإيمان وبالعقل وأصل الإنسان وباستقرار وثبات الكون. إن مجموع هذه الضربات الموجهة للنموذج الإنساني والاجتماعي الذي قلما اعترض عليه حتى الآن يوضح أزمة قيم لوحظت في مجالات متعددة؛ هذا الحضور الكلي للأزمة في مجالات وحقول للمعرفة الإنسانية المختلفة شجعت على التعبير المتميز الذي تستفيد منه في الأدب الوهمي لهذا العصر.‏

وفي هذا السياق في وضع الأزمة ولد تمثيل الظاهرة النفسية في جنس الخارق للواقع الذي عكس الاضطرابات الخارجية وعبر عن قلق وجودي ونقل رؤية مختلفة عن الأنا، مألوفة وغريبة في الوقت ذاته، وضم بالتدريج الجانب اللاواعي وغير المنضبط الذي يكونه. وبالتالي، إن هذا السياق الفكري ولد تمثيلاً خاصاً وأصيلاً للأزمة نظراً لكونها تسبق الثورة الفرويدية.‏

في ذلك العصر الانتقالي، أتاح شرح المعارف العلمية والباطنية تصوراً لاعقلانياً للعالم دون أن يقصى المتخيل أو ما فوق الطبيعي للنشاطات الوحيدة للفكر. لقد أوضح ونظر تطور التحليل النفسي مفهوم اللاوعي الذي صاغ أيضاً ترتيباً للاضطرابات النفسية التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا. إن المقاربة الباطنية للعالم قلما صمدت أمام الاكتشافات العلمية للقرن العشرين، وفسح مناخ السرد واللاواقع والمجهول المجال لتمثيل مختلف عن أزمة الذات.‏

لكي نفهم الخارق للواقع علينا تمييزه عن العجيب؛ على خلاف العجيب Le merveilleux، الشامل واللازمني، فإن الخارق للواقع يرتبط بواقع اجتماعي ثقافي خاص وحقيقي، واقع مجتمعات ينتظم فيها العالم حسب قوانين وقواعد مفهومة، وتقريباً ثابتة، وحيث العالم متوقع. في الحقيقة، إن الخارق للواقع لا يمكن أن يوجد في عالم يسلم فيه بالمعجزة. يعبر الخارق للواقع أدبياً عن غزو ما فوق الطبيعي للعالم المنظور حيث يلتقط الكاتب بواسطة الكتابة سر المعنى، أو الإيحاء به. ولهذا السبب لم يكن ليولد بحق قبل القرن التاسع عشر، الذي يصفه شارل نودييه بـ «قرن دون معتقدات»، حيث انتصرت الوضعية العلمية، وحيث يفسر فيه كل شيء بالعقل: من حركة الذرات حتى حركات الكواكب، مروراً بحركات القلب والفكر.‏

ولكن، ما هو الخارق للواقع؟ تطلق تسمية الخارق للوا قع على مؤلف مبني حول موضوع بروز اضطراب وتشويش ما مفاجئ في عالم الواقع المألوف والعقلاني. ويترافق هذا الاضطراب مع الشك الذي غالباً ما يشترك فيه القارئ والشخصية والذي يبقى دائماً ومستمراً على طول القصة حول طبيعة هذا الاضطراب والتشويش. وهذا العنصر المشوش يمكن أن يكون شبحاً، أو ميتاً حياً، أو تمثالاً يتحرك، أو قريناً، أو أي عنصر ما فوق طبيعي.‏

يعرف بيير كاستيكس الخارق للواقع في الأدب بأنه «الشكل المبتكر الذي يأخذه العجيب عندما يستحضر الخيال، بدلاً من تحويل فكرة منطقية إلى أساطير، الأشباح التي يصادفها أثناء شروده المنعزل، هذه الصور ليست سوى تمثيلات مختلفة للشيء ذاته. إن العنصر المشوش لا يحتاج إلى أن يكون منشؤه من عالم ما فوق طبيعي، ولا حتى أن يكون خارجاً عن الشخصية؛ يمكن أن يشكل والشخصية كياناً واحداً».‏

يستند الخارق للواقع إذاً على اختراق ما فوق الطبيعي في اليومي الرتيب، هذا الاختراق المدرك حسياً كخرق للقوانين العامة التي يستند عليها المجتمع والطبيعة والعالم. بينما في العجيب، ليس هناك عقبات لبروز أو لتدخل جني أو جنية في حياة البطل: فهذا أمر منتظر. هذه الشخصيات تشكل جزءاً من العالم العجيب، ولها مكانها فيه. نحن في عالم» كان في ماضي الزمان». البطل هو الإنسان الذي يسكن على تقاطع شارعين، البطلة هي المرأة التي صادفها في متجر كبير.‏

وهكذا فإن كتاب الخارق للواقع يستخدمون التقنيات ذاتها التي يستخدمها الكتاب الواقعيون أو الطبيعيون لإعطاء الانطباع باحتمال التصديق. غالباً أيضاً، ما تكون القصص شهادات، حيث الراوي هو «أنا» يمكن ربطها بالكاتب، وأحياناً أخرى، يقص الراوي الحكاية التي قصها عليه أحد أصدقائه، أو ابن عمه أو جاره. ولكن، يشعر المرء دائماً أنه متجذر في الواقع. بينما العجيب يبني عالماً مستقلاً يخليه من أي علاقة مع الواقع المرجعي، فإن الخارق للواقع يظهر كشيء حاضر، معارضاً «الهنا والآن» مع «البعيد» ومع الزمن اللامحدد للحدث.‏

إن الروايات القوطية «قصر أورانت، والكاهن، على سبيل المثال» هي رواد الخارق للواقع. إن اللجوء المنهجي والمنتظم للرعب يقطع كل علاقة مع العجيب التقليدي، ولكن تفسير الظواهر الغامضة في النهاية، الحاضر في الروايات القوطية يغيب في القصص الخارقة للواقع. إن عودة مطمئنة إلى المعتاد هي مستحيلة: الواقع متصدع، ومن خلال هذا التصدع يدخل المجهول متسللاً، ويبقى السر ويستغلق على أية محاولة تفسير، وهذا ما يخلق الرعب والدوار.‏

يحب الخارق للواقع بشكل خاص بعض التيمات التي ليست محصورة بميدانه: الأشباح ومصاصي الدماء والشياطين والاستحواذ والجنون والهلوسات والأحلام وكل ما له علاقة بالعالم الآخر. وهذا ما جلبته قصص هوفمان التي فتنت المتخيل الرومانسي الفرنسي. لقد عكف العديد من الكتاب الفرنسيين على الخارق للواقع تحت تأثير هوفمان أولاً، الذي كان يسخر من العقلانيين الذين يختزلون العالم لرؤية جزئية جافة، والذي يكتشف أبطال رواياته أن بعض من أولئك الذي يحيطون بهم هم كائنات مزدوجة ووسائط للواقع الحق، أو عبقريات جهنمية. إنهم يرون العالم المحيط بنا، والذي نعتقد أنه صلب وأكيد، تحت ضوء مؤرق وغامض. لقد ولد الخارق للواقع عند هوفمان من استعمال بارع لحالات الحلم والهلوسة والتنويم المغناطيسي التي تتفكك فيها البنى المألوفة لتكون عالماً خارقاً للواقع مختلفاً عن عالمنا الواقعي؛ من أهم مؤلفاته: «الإناء الذهبي»، «زكريا الصغير»، «المستشار كريسبل»، «الرجل الآلي»، «الممغنط»،»إكسير الشيطان».‏

وكذلك خضع الرومانسيون لتأثير الروايات الإنكليزية للكتاب السود مثل والبول أو لوفيس وراد كليف، فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، مسرحت القصص السوداء للوفيز ولرادكليف وماتوران قصوراً مسكونة، وأشباح موتى ولعنات شيطانية، ووسعوا بهذا الشكل ميادين جديدة للأدب. وإذا لم يعد الرومانسيون يؤمنون بالمعجزات، إلا أنهم ربما مازالوا يحبون الإيمان بها. فالرومانسيون الألمان استشعروا عالماً آخر، لم يدركه معظم البشر، ولكن الشعراء كلفوا أنفسهم بارتياده، نوفاليس، من بينهم، أحس أن على الفنان أن يكون رائياً، وهذه الفكرة انتشرت في فرنسا حتى هوغو الذي نشر في 1823 «هان ديسلاند» التي بطلها هو مسخ، غول متعطش للدم. ولقد كشفت مدام دو ستال في وقت مبكر في فرنسا شعر الشاعر الألماني نوفاليس والأساطير الجرمانية، وهذا الأدب بأكمله مليء بالحلم والتصوف.‏

أراد شاتوبريان رد الاعتبار إلى التقليد المسيحي للخارق للواقع، والذي احتقر منذ القرون الوسطى. ولقد اشتهر في هذا المجال أوجين سو «1804- 1857» «وبول فيفال 1817 – 1887» حيث كان للشيطان ولمخلوقاته دور جوهري يلعبونه. ووجد جيل الشعراء والأدباء الذين ولدوا في بداية العصر والذين كانت تسيطر على نفوسهم مشاعر القلق والخيبة من العالم المعاصر، وجدوا في الخارق للواقع ملجأ ومهرباً إلى عالم ماورائي. وأدى تقدم الرومانسية أيضاً إلى مزيد من الاهتمام بمثل هذه المواضيع الصالحة للتعبير عن القلق الميتافيزيائي.‏

خضعت الأجيال الرومانسية الأولى إذاً بشكل واسع لهذه التأثيرات فظهر الخارق للواقع في الأجناس التقليدية مثل الحكاية أو القصة، ولكنه دخل أيضاً في الرواية وفي الشعر، وبشكل خاص في كتابات القاص شارل نوديه «1780- 1844 « والذي كان على معرفة بكتابات سويدنبرغ وسان مارتان، وكان دون شك أول من التزم وسار على هذا الطريق، وقام برد الاعتبار للخارق للواقع كجنس أدبي بشكل كامل في مقالة شهيرة في عام 1830 «عن الخارق للواقع في الأدب» وفي «سمارا الشاعر النائم –» 1832، و»تريلبي» «1821» وكتب «قصص جنيات رومانسية» مثل «جنية الفتات» وقصصاً خيالية مثل «ليديا أو البعث» « 1839 « التي تشبه «أناشيد الليل» لنوفاليس. ففي قصصه الأولى التي فتحت الطريق إلى سلسلة كاملة من القصص الكابوسية يغذي نودييه الرعب. إن تأثير نودييه كان كبيراً على الجيل الرومانسي الشاب في سلسلة مقالات منشورة حوالي 1820 عرف نودييه الرومانسية بالإلهام الخارق للواقع: الأدب الرومانسي – حسب رأيه – يقدم «المظاهر التي مازالت خافية عن الأشياء»، لتلبية «حاجات أجيال سئمت من طلب أحاسيس بأي ثمن». تصور قصص شارل نودييه هذا المفهوم الخاص جداً للرومانسية.‏

بعد مرحلة مسماة «مسعورة» طور الرومانسيون خارق للواقع أكثر دقة؛ حيث يدخل عالم الأحلام في منافسة مع عالم الواقع. إن حالة نودييه هي بهذا الصدد نموذجية. لقد افتتن الرومانسيون في قلب الفترة الرومانسية بما فوق الطبيعي وبدأت موجة الخارق للواقع في فرنسا في 1820 وازدهرت في القرن السابق الذي ترجع إليه موجة الإشراقيين «عنوان كتاب نشره نرفال في 1852 « والمنومون المغناطيسيون مثل سويدنبرغ ومارتين دو باسكوالي وسان مارتان ولافاتير ومسمر ومغامرون مثل جيرمان وغالغليوسترو الذين فتنوا العقول، على الرغم من الافتتان والولع العام بالعلوم العقلانية. وترجم نرفال «فاوست» للشاعر الألماني غوته، والذي حملته قصائده «الأوهام» وقصصه «الإشراقية» بعيداً، وسكنه هاجس الموت؛ وبدلاً من الاقتصار على الآثار الأسلوبية، فإن «غموضه» يعبر عن آلام وعي خنقه الحجاب الهاجسي للجنون، وفيما بعد إدغار بو الذي ساهم بودلير بترجمة أعماله، مروراً ببودلير ذاته حتى الرمزيين المليئة بالأشباح وبالأخيلة، وبالقصور المسكونة، وبالسراديب وبالدهاليز المشؤومة والمكتنفة بالأسرار.‏

إن كبار كتاب الحركة الرومانسية لم يبقوا على الحياد في هذه الموضة «السوداء». بعض القصص لغوتييه ساهمت أيضاً في الجنس الجنائزي، وبعض روايات هوغو «مثل هان ديسلاند أو نوتردام دوباري»، وحتى لبلزاك في بداية مدهشة وسمت بميسم هذا التيار الإلهامي. إن قصص وحكايات لذلك الذي كان قد قدم قبل هوغو، للحركة الرومانسية، كل مميزات هذه الرومانسية «السوداء»: حس جمالي للمناخات القروسطية والقوطية، وحتى البربرية؛ وجاذبية للمعتقدات الباطلة والخرافات والأساطير المؤسسة لاستيهامات جمعية لثقافة العصر؛ انحراف هاجسي للتصويري نحو الشاذ والغريب وما فوق الطبيعي والخارق للواقع. وبنشره « La Venus d>Ile « « 1837 « و Lolis» « « 1869 «، أصبح ميريمه أستاذاً حقيقياً في فن الخارق للواقع حيث لعب على تردد دائم بين الواقع وما فوق الواقع. أما باربيه دوروفيلي في شيطانياته ses Diaboliques 1874 وفيلييه دوليل آدام في قصصه الأليمة contes cruels « 1883 « فقد استعملا هذا الجنس للتعبير عن رفض أنوف ومستفز لعالم كان يبدو لهما قد ساخ في الترهات المبتذلة للحياة اليومية الرتيبة السطحية. ثم تحرك الشعراء الرمزيون بسهولة ويسر في عالم يتجاور فيه الغموض والحلم وعلوم السحر والتنجيم، والتنبؤ بالورق أو الكيمياء. ويعرف رامبو ولوتريامون، كل على طريقته، في الإشراقات « Illuminations « لرامبو أو «أناشيد مالدورور» Les chants de Maldoror « نفسيهما كعرافين. آما نرفال من جهته عندما كتب « Aurelia أوريليا» ولج إلى المناطق الأكثر غموضاً وسحراً في الحياة النفسية. وتابع الكتاب السورياليون مثل أندريه بروتون خاصة في كتابه» نادجا»هذا الاستكشاف في سراديب اللاوعي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية