|
فضاءات ثقافية مضت سنوات لا بأس بها منذ أن أصدرت روايتك «إعجام»، قبلها كانت هناك مجموعة شعرية، اليوم تعود للشعر، وثمة رواية في الأفق. أولا ما سرّ هذا التأخر، ولو لم يكن كبيرا، عن النشر؟ ثانيا، كيف تفسرّ هذا التناوب في الكتابة، أقصد بين الشعر والرواية؟ سرّ التأخّر هو أنني كنت منهمكاً بكتابة أطروحة الدكتوراه التي استغرقت عدّة سنوات، كما أنّني كنت بدأت كذلك بالتدريس في الحقل الأكاديمي وهذا كلّه يستنزف جهدا ووقتا ولا تبقى إلا سويعات قليلة كل أسبوع للإبداع. ومع ذلك فالقراءة كانت مستمرّة بالطبع وهاجس الكتابة وممارستها حاضران بغض النظر عن النشر. بدأت بكتابة هذه الرواية منذ سنة ونصف وأنا الآن على وشك إكمالها. العام الماضي حصلت على منحة سمحت لي بالإقامة في برلين, وبالتفرّغ المؤقت وهذا أتاح لي الفرصة لالتقاط أنفاسي الإبداعية، إن شئت، والعودة إلى كتابة الشعر, وتكريس الوقت كلّه للقراءة والترجمة بعيداً عن ضجيج الجامعة, ومتطلبات التدريس اليومي. تجربة برلين كانت رائعة ثقافياً ووجوديّاً وأمدّتني بزخم شعري جديد وغزارة لم أعهدها من قبل. هناك نصوص كثيرة لم أنشرها بعد, ليس هناك تناوب مقصود أو مبرمج بين الرواية والشعر، فهاجس الشعر حاضر دائماً. وهناك مشروع رواية ثالثة لكن يجب وضعه، مؤقتاً، على الرف لأن طبيعة عملي الأكاديمي تتطلب أن تكون الخطوة القادمة نشر أطروحة الدكتوراه لتثبيتي في مهنتي وبعدها رواية ثالثة ورابعة وشعر إن أراد شيطان الشعر!. منذ العنوان، عنوان مجموعتك الجديدة «ليل واحد في كل المدن»، تحيلنا إلى كتابة المكان، ولو جاء أحيانا بشكل مستتر. ماذا يعني لك المكان، أنت الكاتب العراقي؟ ما زلت اكتشف ما تعنيه لي الأمكنة, وليس لدي جواب محدّد، بل أجوبة، على سؤالك الماكر. نحن لا نعيش المكان ولامعانيه أو ذكرياته بصورة مباشرة أو محايدة. فلكل مكان صوره وتمثيلاته الموجودة أصلاً في الخيال الثقافي والاجتماعي والتي تفرض نفسها علينا كنسخ متشابهة ومختلفة في آن واحد، نلونها نحن، بما في جعبتنا من ألوان وهذه الأخيرة تعكس، دائماً، منطلقاتنا الثقافية والأيديولوجية التي لا نعيها في الغالب. وهكذا يصبح المكان الواحد أمكنة كثيرة لأننا نقاربه ونراه بطرق مختلفة. ما يثيرني حقاً هو كيف أن الأمكنة تتداخل وتتعايش مع بعضها البعض فتسكن مدينة ما مدينة أخرى في ذاكرة الإنسان، خصوصا المهاجر، فتجد نفسك تمشي في شارعين في وقت واحد أو تعبر شارعاً مقفراً في مدينة لا تعيش فيها ولم تزرها منذ سنوات. أنا من بغداد وأمضيت نصف عمري فيها. لذلك فهي المكان الأول الذي يعاودني طيفه أحياناً وكوابيسه دائماً. وقد عانت ما عانته في عهد الدكتاتورية المتوحشة التي يتناساها البعض الآن، ثم أدخلها الاحتلال ووكلاؤه المحليّون منذ 2003 في خراب جديد, وأطلقوا عنان الموت في شوارعها, كل هذا الخراب والموت والتشويه يؤرقني ويحيرني أيضاً. أهرب إلى ذاكرتي أحياناً لأدوّن ما تختزنه عن بغدادي التي لم تكن تفصل حاراتها، المنتقاة طائفيا الآن، جدران إسمنتية, وكان المرء يمشي فيها دون أن يقتل بكل سهولة. وأقلّب الكتب بحثاً عن «بغدادات اندرست». أبحث في الانترنت عن صور شوارعها الآن. أركض خائفاً فيها وأنا جالس في قارة أخرى و.. و.. ولا يعني كل هذا أنني لااستمتع وأتلذّذ باكتشاف الأمكنة الجديدة والتعرف على المدن. بالعكس، لكن ليل بغداد يتسلل إلى ليلي. ولعله أكثر من ذلك في برلين لأنها مدينة عانت ما عانته من حروب وذبح. تطرح في جوابك قضية كبيرة وهي قضية الذاكرة. هل نحن ذاكرتنا فقط؟ لا، بالطبع، لسنا شيئاً واحداً فقط. لكن لا مفر من التاريخ، الفردي والجمعي. كما أن الذاكرة، خصوصاً في مجتمعات دمرتها الحروب والفاشيّة، تكتسب أهميّة إضافية لأنها المسرح الذي تستمر فيه الصراعات, وتحاول قوى سياسيّة أن تبرئ نفسها من جرائمها وتعيد إنتاجها من جديد تحت عناوين جديدة, والأمثلة كثيرة في لبنان والعراق. لقد كتب فالتر بنيامين عن أهميّة التذكّر الديناميكي الخلاق وأهميّة إنقاذ ذكرى الضحايا و «حصتهم في الغد». الماضي دائماً متورّط في الحاضر والمستقبل وفي محاولة تحديد سماتهما.. تجمع في كتابك قصائد تمتد على فترة زمنية تصل إلى عشر سنوات. ألا تخشى أن يقارن القارئ بين «تجارب مختلفة» في المجموعة، على الأقل من حيث الفترة الزمنية؟ أطرح هذا السؤال لأصل إلى فكرة تؤرقني كثيرا: ما معنى المجموعة الشعرية، هل هي ضم لقصائد متفرقة، أم إنها كتاب كامل نعمل عليه منذ البداية وحتى النهاية؟ جمعت كل ما أراه جديراً بالنشر من بين ما كنت كتبته في هذه السنين ليعكس تجربتي فيها. إذا هناك، ضمناً، زعم بأن القصائد التي كُتِبَت قبل عقد من السنين ما زالت فتيّة وقادرة على إغواء القارئ ولها مكانها. لا أرى إشكالية في أن يتسنّى للقارئ أن يطّلع على تنوّع واختلاف وتطّور في التجارب، فهذه علامة إيجابية تشير إلى نضج. ولهذا قسّمت الديوان إلى ثلاثة أقسام يعكس كل منها مرحلة زمنيّة مختلفة ومقاربات مختلفة نوعاً ما.. أما بالنسبة للشق الثاني من سؤالك، فيجوز الوجهان. معظم الدواوين وفي كلّ الثقافات ضم وجمع لقصائد متفرّقة وحتى تاريخ مفردة «ديوان»، التي كتب عنها أحد المستشرقين مقالة كاملة، وهي فارسيّة الأصل، يحيلنا إلى فكرة بنيان وإطار يحمي ما هو ثمين ويحرسه من عوادي الزمن! أرشيف. لكن هناك، بالطبع، مجموعات تهيكلها ثيمة أو هاجس أو سردية ما وبالتالي يكون لها معمار أكثر تعقيداً, وتقوم كل قصيدة أو مجموعة من القصائد بدورها المحدد في تعميق الفكرة الهيكليّة وتطويرها. لعل بعض دواوين محمود درويش هي خير مثال على هذا. نحن في زمن بدأ فيه الكثيرون بنعي الثقافة الورقية والكتاب، كما نعرفه، والطوفان الالكتروني يجرف كل شيء، لذا فقد يصبح للكتاب الورقي، وخصوصاً ديوان الشعر، مكانة أيقونية. وقد يكون هذا جميلاً, ما أود قوله هو أن العالم المادّي وقوانينه وضغوطه تغيّّر نظرتنا لكل شيء. والتشتّت والتشظّي الذي هو سمة العصر, أخذ يؤثر على فكر الإنسان واستيعابه لما حوله حتّى ضاقت القدرة على التركيز والانتباه من دون مقاطعات وتداخلات من كل صوب. حتى صار إكمال قراءة كتاب بأكمله عبئاً على الكثير. فأرى أن الزخم في الحيّز الثقافي هو، للقصيدة أو النص المفرد على حساب الدواوين. ولا ضير في ذلك. الهاجس الأساسي، بالنسبة إليّ، هو القصيدة، كحيّز جمالي يكاد يكون سحريّاً، يتحقّق فيه معنى وجودي وغايته، ومحاولتي لأن أجد طريقي إليها لأكتبها. وهكذا يكون كل ديوان وقفة ونظرة إلى كل المحاولات المختلفة السابقة للوصول إلى ذلك المكان واللامكان السحري، ثم مواصلة الرحلة. القصيدة هي كتاب الحياة الذي نظل نعمل عليه دون أن يكتمل! وفي هذا العالم القاسي تظل هي الحيّز الذي ندافع فيه عن حقوقنا الجماليّة والوجوديّة ونتمتع بها! |
|