تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نجم الدين الصالح 1927-2010م.. أنا الذي ذوّبه وجده.. ومات في سفحك لحناً على حمرة هذا الأفق الباقية

ثقافة
الأحد 14-3-2010م
ديب علي حسن

الوداع المسحور.. هو عنوان واسع لرحيل قامة شعرية تلونت إبداعاتها في الحياة العامة، نجم الدين الصالح مع مطلع الربيع يرحل وقد اشتعلت الدنيا اخضراراً يزداد يوماً تلو الآخر

وكأني به لا يريد أن يغادر هذه الدنيا إلا مع إطلالة الربيع وليس أي ربيع، إنه الربيع المسحور والساحر.. قد لا تتلألأ في القمم تزهو بمبدعيها تزهو بجمالها، ونجم الدين الصالح يكتب منذ نصف قرن ونيف (الغاب المسحور).‏

مهما كان السحر فهو نوع من الإبداع، وإي إبداع أروع من الشعر الذي ينسكب عذباً صافياً رقراقاً كتلك الجبال، الشعر المنسكب بهاء، وأي رحيل أجمل من رحيل شاعر أعطى وقدم وعاش حياته كفاحاً ونضالاً، ومع نوارة الربيع يترك ربيع إبداعه ليفوح عطراً في دنيا الحرف..‏

نجم الدين الصالح، الشاعر والمحامي والسياسي تنوعت محطات حياته وترك بصمة هامة في مسيرة الابداع فماذا عن رحلة عطاء الشاعر وحياته..؟!‏

محطات‏

ولد الشاعر في قرية (بمنة) صافيتا عام 1927م وحتى السابعة عشرة من عمره وهو بين قصة وكتاب، ومن نبع إلى أخر في (جبل متى) الأخضر ذي الثلاثمئة وستين نبعاً وهو من شلالات محيطه.. وكما جاء على غلاق مجموعته (الغاب المسحور)، ثم قرر أن يدرس فانتسب إلى معهد خاص في حلب وإلى صف الكفاءة فوراً، وكان نجاحه نقطة البدء لمواهبه، وبعد أن حمل إجازة في الحقوق من جامعة دمشق، فتح معهداً تعليمياً خاصاً باسم الفارابي في بلدة المياه المعدنية الدريكيش إلى جانب ممارسته مهنة المحاماة ثم أصبح نائباً في مجلس الأمة -أيام الوحدة- عن منطقة صافيتا، خاض غمار النضال وعاش معركة القومية العربية بعمق وخاصة في سنواتها الأخيرة -الستينات- فأقام الحفلات والمهرجانات الكثيرة وألقى القصائد المتوالية في مختلف مدن الإقليم (سورية ) وبواسطة الاذاعة وذلك بمناسبة الكوارث الفاتكة بأقطار الوطن العربي، وبالنسبة لانتصارات القومية العربية الظافرة وعرس الوحدة الميمون.‏

انتخب عضواً في مجلس الشعب سورية عام 1970 وانتخب ثانية منذ عام 1978م واستمر لفترة طويلة عضواً في المجلس.‏

نذر شعره للمناسبات الوطنية والقومية، وقد أصدر منذ عدة أعوام ديوانه الشعري في مجلدين، وظل يكتب وينشر إلى فترة قريبة، وإذا كان لابد من الوقوف عند ملامح شعره فيمكن القول: إن إبداعه ينقسم إلى لونين الأول يشمل المراحل الأولى مثل مجموعتيه زنبقة ونجم، وقد صدرت عام 1947م والغاب المسحور صدرت عام 1960م ويمكن أن نسمي هذه المرحلة باسم الشعر الوجداني الذي يشبه الشعر الصافي وينسكب مثل الغاب الأخضر الذي نجد ملامح وتماوج خضرته تضوع من قصائد الغاب المسحور .‏

أما المحطة الثانية فهي الأكثر انشغالاً بالهم الوطني والقومي وتجليات الواقع المعاشي فقد أرَّخ الشاعر في قصائده للمناسبات الوطنية والقومية، غنى الآلام والآمال، شدا للأفراح والأتراح، ومع أن المد القومي الذي غنى له الشاعر كاد يمحى من الشعر الذي يكتب هذا اليوم فإننا نظن أن نجم الدين الصالح قد أرَّخ بالشعر وبالفن الشعري للوقائع القومية لأكثر من نصف قرن، ولم يأت من يملأ الفراغ ويسير على الدرب مطوراً الأدوات والأساليب، وربما سنبقى ننتظر زمناً طويلاً ريثما يأتي من يملأ الفراغ ويرسم خطوات جديدة ولا ريب أنه آت.‏

الغاب المسحور‏

الغاب المسحور مجموعة أسرة ورائعة وواحدة من محطات إبداعه، صدرت عام 1960م وبالتأكيد أتحدث عن الطبعة الأولى منها، وهي مشتراة من مكتبة الرصيف إذ أنني أجد أن المجموعات الشعرية الأولى تقدم في لونها وشكلها وإخراجها وورقها نكهة مختلفة عن الطبعات الجديدة.‏

قدم للمجموعة الأديب بديع حقي ولا أجد دراسة نقدية صافية ووافية أعطت المجموعة حقها كتلك المقدمة التي نستعيد بعضاً مما جاء فيها:‏

صور آسرة‏

يقول بديع حقي: حين سألني صديقي الشاعر نجم الدين الصالح ونحن فوق قلعة ممرعة خضراء من قلاع القرية الوادعة (دريكيش) ما رأيك في هذا العنوان: (الغاب المسحور) يزهى به ديواني؟ فقلت: إنه رائع... وآثرت له هذا (الغاب المسحور) قبل أن ينعم سمعي بهزج شعره الحلو، لا لأن فروع هذا الغاب تنسدل على قصائده كلها، بل لأنه ينفض أمام الخيال، صورة زاهية خصبة عن لون من الشعر، أتذوقه وأكلف به.‏

ويضيف حقي: يطيب لي، أحياناً أن أتخيل الشعر غاباً مسحوراً تعربد في أفيائه الظلال، وتصطرع في مداه الطيوف، وتتجاوب في حناياه الأصداء، ويسطع في جوه أرج عبيق، فإما ضل الشاعر في متاهاته جئت في منسرح نظره صور آبدة آسرة يتجاذبها وضوح وغموض، ويتعاورها خيط من نور وخيط من ظلام، فإذا هم الشاعر باقتناصها شمست عليه وتأبت طرفة تياهة، إنها تهفو -وهي القلقة المتحركة- إلى إهاب تضيء وتستريح إلى ألفاظ شهية تستطيبها، لتنسكب في مزالق حروفها، ويبحث الشاعر عن ألفاظه، ها هي ذي تتململ في أغوار نفسه، وتنبجبس منها لتصافح سمعه وتستثيره وتعابثه، ثم تنثال، كالهمس، كالبوح، كالوسوسة ولتخط أمامه كل لفظة مزهوة بجرسها، مدلة بحروفها حتى تعلق بالصورة المناسبة لها، فتجنحها بالنغم، ثم تنطلق مع رفيقاتها في مراد الغاب الرحيب.‏

وهكذا ترى صديقي- والكلام لحقي- الشاعر نجم الدين الذي يتطلع من خلال غابه المسحور إلى الشعر الأليث، تترامى غدائره الوجفة شعلاً راعفة، ويزهى على صفحة الفل قافلة بيضاء، وتنساب أفياؤه ندية وارفة، تهرق بوحاً ربيعي السنا راعشاً وتهيج شوقاً عاصفاً عميقاً:‏

أفاق غاب هذه الوارفة‏

من قال عنها شعل راعفة‏

قافلة الفل على سفحها‏

تزهى، وتعوي خلفها العاصفة‏

نبع صبابة وجمال..‏

لقد فتن صديقي نجم الدين بالغدائر- فهو شاعر- وألف أنها أشبه بالغاب المسحور، ويضيف حقي قائلاً: فآثر أن تسربل جدائل هذا العنوان الرفيق قصائده كلها، لعله أحب هذا الشبه لأنه- كما يتراءى لي في قصائده- نبع صبابة وجمال لعله آخذ بمدرجة الشاعر (مالا رميه) الذي كتب إلى صديقه (كازاليس) لايوجد سوى الجمال، وليس له سوى تعبير كامل هو:الشعر.‏

بيد أن صور الديوان وتشبيهاته منتزعة من جمال المرأة وحدها ترى إلى شعرها ينسرح كالغاب المسحور‏

غاب على كل أضاميمه‏

إيماءة من خلدنا خاطفه‏

وإلى غمازتها تومي إليه غنوجي رفيفة العطر‏

من صاغها حلوة - تكاد من فرط السنا تذهل‏

تغنج كالنجمة في خدها- والسحر في البسمة يسترسل.. وإلى خديها يجرحهما الورد:‏

وأحسب الورد في خدي من دمه‏

لولاه ما كان هذا الورد لولاه‏

وإلى ساقها تقطف في خطوها المواعيد‏

والساق خلف الساق جدول فتنة وهديل غاب‏

تمشي فيرقص كل شوق للذهاب وللإياب‏

وإني لألمح عيني الشاعر القلقتين الظامئتين، وهما تتعلقان بعابرة كزوبعة العبير على الرصيف، كفراشة بيضاء فيجب قلبه على خفق خطاها ويتبعها متأجج الأهداب، مسعور الرغاب ولكنه إلى ذلك رفيق بها مشفق عليها:‏

فارفق بقافلة الشذا‏

يا بائع الوهج المذاب‏

أرفق بها فالحسن قد‏

تعبت روائعه ببابي‏

وتتقد نظرته الطلعة، لتنساب إلى فجوة الفستان:‏

وبفجوة الفستان جن‏

شذا وروع زئبق‏

طفل من الكرز الشهي على الرخامة أحمق‏

مصطافة..‏

في الديوان (الغاب المسحور) قصيدة رائعة (مصطافة) متح الشاعر شباتها من الواقع، ثم أضاف إليها أصباغه وأطيابه وألفاظه فترعرعت في لعاب قلمه اللبق الصناع، قصة شعرية لطيفة، ذكرتني -حقي- بقصص عمر بن أبي ربيعة حين كان يتتبع حسان الحجيج ويتصباهن وينسج من نظراتهن ولفتاتهن وكلماتهن قصائد في الغزل والنسيب.‏

فلو قيض لعمر أن يبعث في (دريكيش) لما وجد أحلى من هذه (المصطافة) بين حجيج المصطافات وهي تطل من الشرفة البيضاء وينساق بصرها إلى الطريق ليلتف بقلب الشاعر الجاثم على طرفه ويشده ويدعوه، فيسعى إليها الشاعر ويصعد درج الفندق ويتبسم له الباب الخجول، وينفسح له (صالونه) الطروب وتمد كفها كالحرير كالغض تمرح في يديه .. يقول الشاعر:‏

وتشد فوق مفاتن‏

الديوان فستان الحرير‏

هل كان يختبىء العبير‏

إذا تلفع.. بالعبير‏

شدي على الديوان يا‏

سمراء.. شدي من برودك‏

أخشى أخاك.. إذا رآه‏

هناك.. يرقص في نهودك‏

أخشى لهيب حروفي الرعناء‏

ينشب في حريرك‏

أخشى مغبته .. إذا‏

أمسى رفيقك في سريرك...‏

ويكتشف أهلها أن الشاعر قد أهداها ديوان الشعر ويكون الرحيل السريع!‏

وتنبه الأهلون.. للخجل المخضب وجنيتها‏

وتزلق الطرف الخبيث‏

إلى الملم.. بحلمتيها‏

وإذا غد والظعن ومرتحل‏

وقصر الشمس ذاهل‏

لا وردة في الشرفة الخجلى‏

تلوح .. ولا خمائل...‏

نائمة‏

وإذا ما تركنا قصيدة (مصطافة) ومقدمة بديع حقي وتجولنا في قصائد (الغاب المسحور) فإننا نطوف في عالم من الضياء والنور، عالم المرأة والظلال، عالم الحب الذي لا يعرف حداً، في الغاب المسحور كل قصيدة تعطرك بألف لون ولون‏

تقرأ القصيدة وتقول هذه الأجمل والأروع ولكنك تفاجأ أن إحساسك كان خاطئاً، ولا تدري من أي الكروم يصطفي نبيذك المسكوب شعراً من حواء، في قصيدته نائمة يقول:‏

وغضت.. كما يغفو.. الأصيل‏

على رفيف الزنبقة‏

الليل في الشعر المغرد‏

كالطيوف الموبقه‏

كالحلم.. يسري في الجديلة‏

كالأماني الموثقة‏

والفجر لحن ضائع خلف الجفون المغلقة‏

ووميض طهر شفه حرد النهود وأرقه‏

فحنا على ثدييك محطوم العفاف ممزقه‏

يا فتنة كادت تسيل على الشفاه المطبقة‏

من صاغ.. هذا الثغر من كرز النجوم وزوَّقه‏

وكسا فتونك من ألوهته وندى مشرقه‏

إن كان ربك هكذا شاء الجمال ورقرقه‏

فمن الذي لن يصطلي نار الجمال المحرقه‏

ومن الذي لن يستكين إلى هواك ويعشقه..؟!‏

وداعاً..‏

نجم الدين الصالح الإنسان والمحامي الشاعر وداعاً، إبداعك باق ساحر كالغاب الذي زدته سحراً على سحر، وجمالاً على جمال، رحلة عمر لم تكن مجرد سباحة في الزمن بل أعطت وأثمرت.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية