|
كتب
إن السيد قد حل رباط «طارق فاضل» بعد أداء آخر مهمة له، كذلك فعل عبده خال على لسان سارده: «كان قراري بقتله قد نضج تماما، لقد مضى زمن طويل وأنا أحمل جثته في مخيلتي ولا أعرف كيف أواريها, فحينما آوي إلى فراشي أستجلب النوم بخيالات مقتله، وفي كل ليلة أقتله بطريقة مغايرة عن الليلة السابقة... آه كم المسافة بعيدة بين الخيال والواقع؟» ولكن في نهاية الأمر, بقي طارق فاضل في سماء السيد حيث شهد أهل الحي الذي سُمي جهنم سقوطه المدوي فيما بعد, كذلك فعل عبده خال عندما سيطر على حياة طارق بالتخييل كإعادة إنتاج للواقع بطريقة إبداعية وترك لطارق الخيال وتلك المسافة التي لن ولم يقطعها أبدا. الماضي المستمر لحياة طارق فاضل الذي أنجزه الروائي عبر تقنية التسارد بأن جعل السرد على لسان السارد يتأمل ذاته من خلال وقفات طارق فاضل ليتشارك فيها مع الشخصيات والقارئ ويفتحه على معاني سميائية التأويل, فيعيد توطين التخييل في أرض الواقع داعما ذلك بالتسنين المزدوج وبالإحالة لمذكرات طارق فاضل وبوحه وما خطه في فصل البرزخ من إحالات «واقعية » كسخرية تناصية تفتح العمل الروائي على واقع الحال في المجتمع الذي رصده السارد في لحظة الحاضر المعاش. هل أراد منه أن يعري الأسباب ويضبطها, فنقع على جوهر النتائج الجحيمية التي عصفت بهذا المجتمع؟!؛ فأقام معماره الروائي على تقنية الماضي المستمر متزامنا مع لحظة الحاضر التي انتهى لها هذا السرد عبر الحياكة الأفقية العائدة للوراء, لتسبيب مصائر الشخصيات والرأسية التي تشعل أحداث السرد للوصول للحظة إهداء هذا البوح القذر على لسان طارق إلى تهاني أول ضحاياه وانحدار روحه من جحيم الحي إلى جحيم القصر. الإجابة تبدو نافية: فالشخصيات التي هي المعترك الذي تظهر عليه أفعال السيد المختفي في صمت الشخصيات التي لم تقاربه، بل اكتفت بمقاربة ذاتها وغيرها من الضحايا لا أكثر، وبقي السيد سيد الغموض المتفق عليه بين الجميع، فرغم قربها لدرجة الالتصاق منه, بقي تسبيبه غيبيا, فلا أحد فلح بمعرفة من أين ينبع هذا الشر المقيم فيه؟ وما القدر الذي أوجده؟ فالسيد موجود كما الوجود ذاته وغائب كما الغياب ذاته, فلا جدوى من السؤال عن سببه وكأن السيد في لحظة استطاع ترويض الكاتب وشراء اعتراف طارق فاضل أو القيام بمبادلة ستجلب لطارق فاضل رأفة ما من قارئ بوحه!! وللكاتب ذلك الغموض الصادر عن فرضية وجود السيد, فيختلط لدى القارئ التخييل بالواقع, فيدفع بشهوة القراءة إلى أقصاها لدرجة قد يُسأل الكاتب خفية: هل هو حقا من شخصيات مدينة جدة؟!, فتغيّب المتعة المتحققة الأسئلة التي تفترض أن تقيمها الرواية في ذهن المتلقي لنوع من الأسئلة الصفراء؟!. وعليه, أوليس انتاج هذا البوح رغم نية القتل المبيتة فيه والتي استطاع السيد أن يضبط طارق فاضل يتمناها واستهتاره بأمنيته ومن ثم إغفاله شخصية السيد بهذا الشكل الصريح إلا آخر المهمات التي أنيطت بطارق فاضل وكأنه باعترافه هذا دون للسيد مذكرات تملأ وقت فراغه عندما اقلع عن تلك العادة بتعذيب خصومه وبالنسبة للكاتب فرصة لاتعوض ليعطي لحبر قلمه قدرية آمرة لا مناص من أن تقرأ ما خطت. عبر كل هذا, هل يؤكد عبدو خال, أن ما كتبه وسره له طارق فاضل كان بإملاء غير مباشر من السيد/السلطة بتجلياتها المعروفة وغير المعروفة التي استطاعت أن تتحكم حتى في كيفية انتقادنا لها ومقاربتها ؟!. نعم يؤكد، فالواقع الجحيمي الذين تمرغ أبطال الرواية به من عيسى وأسامة وطارق وغيرهم, الشركاء في التيه الذي هدفوا من ورائه عدّ أضواء القصر؛ ليخففوا من حدة فقرهم المادي والروحي الذي يمثله حي الجحيم مقابل القصر«الجنة»؛ حولهم لفراش احترقت أجنحته ولم يمت بل تحول لزواحف في ثنايا هذا القصر من دون أن نلحظ السبب في اشتغال آلية الشذوذ الحقيقية التي قادتهم إلى نهاياتهم الفجائعية والتي تنبع من التابوهات الثلاثة المسببة لهذا التيه الجحيمي التي اكتفى عبدو خال برصد أثارها دون أن يطالها التحليل كأسباب فاعلة بل ذهب في مخاتلة استعار لها أسبابا فرويدية، فالجميع سعى لقدره ولم نر السيد يسعى لأحد بل الضحايا من حي جهنم كانت تأتيه بكامل إرادتها للهرب من واقعها المزري؟!؛ وبذلك يفقد الروائي التناص دوره كدلالة «القصر/الجنة» من حيث هي استتار, ظاهره جميل وباطنه الجحيم، فيستر عبدو خال السبب ويحيله إلى قدر حي الجحيم؛ لتقع الشخصيات والقارئ تحت مقولة «اللطف فيه». هكذا يوقع عبدو خال الجميع في الشرك لا يستثني نفسه منه وكأنه يريد أن يؤكد أنه معذور بما خطه من التقية المغلفة بالوصف الباهر، فحاذر أن يغضب آلهة التابوهات وأما فقراء حي جهنم الذين نشر ثيابهم الوسخة علنا، فيكفهم أنهم كبش الفداء عن الحقيقة، وترك القصر يشع بأضوائه التي لا تعد. حبة رمل واحدة قادرة أن تقلع أي عين وفي لحظة العاصفة لا أحد بمنجى عنها. حاضرنا الآن ليس نتاج الماضي وفق قاعدة السبب والنتيجة بل لأننا أكثر الناس حرصا على هذه القاعدة وتصنيم أسبابها والتسليم بنتائجها. في النهاية نسأل: إلى متى ستبقى رواياتنا تثير الزوابع في الفناجين، روايات تخاتل وتحتال على المتلقي، تبتعد عن التفكيك والنقد لا تقول بل تأخذ اتجاها هوليوديا مبهرجا الكثير من الصور ولكن بلا عمق, فالعمق خمر يجب اجتنابه ؟!. Bassem-sso@windowslive.com «ترمي بشرر» لـ عبده خال صادرة عن دار الجمل لعام 2009 وحاصلة على جائزة البوكر بنسختها العربية لعام 2010 |
|