تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار.. الصداقة ... كالحب ، بحاجة إلى التجدد المتواصل

آراء
الخميس 20-5-2010م
ياسين رفاعية

يقولون إن الحب يبدأ كبيراً ثم يصغر ويتلاشى، إنه ، كالنيزك ، يشتعل ، ثم سرعان ما ينطفىء ، اما الصداقة فهي كالشمس لم تكن معدناً ، هي تشرق وتغرب ، لكنها تغرب لتشرق مرة ثانية وثالثة.

كنت قد كتبت قبل مرة ومرة أن الصداقة أثبت من الحب على البقاء والاستمرار ، صحيح أن هناك صداقات تتضارب والمصالح الخاصة ، لكن هناك صداقات نادرة ، ولكنها موجودة ، الفلاسفة ادعّوا مراراً أن لا صداقة طاهرة وبريئة بين الناس ،ولا صداقة من أجل الصداقة ، وهنا قال الامام الغرافي : ماكل أحد يستحق أن يعاشر ، ولا يصاحب ولا يساير وكان سليمان الخواص ببيروت فدخل عليه سعيد بن العزيز ، وقال له : مالي اراك وحدك ليس لك رفيق؟ قال ( أكره أن يكون لي رفيق لا أقدر أن أقوم به ، أي أخدمه ، قال المتصوف المشهور فريد الدين العطار ( و أسفاه ليست لي بأحد صداقة ).‏‏

لكن بعض الاحيان تخرج من البحر ما يشبه الجوهرة ، صداقة تبان لك كأنها خارجة من الجنة .‏‏

سبب هذا الكلام أنني منذ بدأت أكتب أسبوعياً في هذه الجريدة ، الثورة وأنا أتلقى هواتف ورسائل من ناس لا أعرفهم يعلقون على هذا المقال أو ذاك ويبدون ملاحظات هنا وهناك ، الا أن سيدة ظلت تتصل بي على مدى السنوات الثلاث الماضية دون توقف ، تنقل لي على الهاتف عنوان مقالتي وتبدي في كثير من الاحيان إعجابها وقليل نقدها ، أول ما جاء صوتها الناعم الشفاف ظننت أنها فتاة في العشرين ،ومع تواصل تلك الاتصالات ، ومن السؤال عن أخبارها تبين لي أنها سيدة وأم بل وعندها أحفاد أيضاً، قدرت ان يكون عمرها في الستين أو أكثر قليلاً أو أقل قليلاً، وخمنت انها من دمشق لأن لهجتها شامية مئة بالمئة .‏‏

في البداية لم أكن لأهتم بالأمر ، ولكن مع التواصل نشأت بيني وبينها صداقة ( هاتفية ) إن صح التعبير ، فهي إما تهتف لي أو ترسل رسالة قصيرة إلى هاتفي تحاول فيها الاطمئنان عني ، وذات يوم أحست بصوتي نبرة حزينة فقلقت عليّ أشد القلق ، وظلت أياما متوالية تلحّ علي إن كنت اشكو من مرض ما ، أو أعاني من مشكلة مادية أو معنوية ، كان قلقها صادقاً وحقيقياً ، فاعترفت لها أنني أعاني من مرض العزلة والتوحد والخوف والاحساس بأن العالم قد تخلى عني ، ثم صارحتها أن ما أعاني منه هو - حسب توصيف للاطباء ، مرض الاكتئاب ، فاشتد قلقها عليّ ، وظلت تسألني عن أنواع الادوية التي استعملها ، وعندما أعطيها اسمها تذهب إلى أطباء في دمشق وتسألهم عن هذا الدواء أو ذاك ، كما لو أنني أمتّ اليها بصلة ما، تعجبت من أمر هذه المرأة ، بل أصبحت أشعر انها اقرب الناس لي، وهذا القلق الذي أبدته نحوي لم يبد من أقرب الناس إلي ، لا من ابني ولا من أخي ولا أختي ، وتساءلت هل يمكن ان تبنى صداقة على هذا النحو بين شخصين لا يعرفان بعضهما؟؟‏‏

في الواقع ، مع توالي الأيام ، أحسست أن هذه السيدة استطاعت ان تخفّف الكثير من توحشي ووحدتي وعزلتي ،باتت هواتفها بالنسبة لي ضرورة تشبه الدواء الذي يشفي ، وكلما ازدادت اتصالاً بي وقلقاً عليّ أشعر أن في الحياة علاقات انسانية تخفف من غلوائها وبطشها ، وإن كلمة جميلة من أنسان تعادل علبة دواء من طبيب وصفها لك ، فصداقة من هذا النوع ، انبنت في تلك الظروف الانسانية هي أهم من أي صداقة اخرى نشأت بالمعرفة الشخصية او حتى بالمعرفة الاجتماعية عبر ظروف متعددة.‏‏

إنني أدين لهذه السيدة بالكثير الكثير من تخفيف عبء الحياة وثقلها على القلب والروح فاذا قال المتصوف عبد الوهاب الشعراني « ليس لي أصحاب » أقول له: لا، هناك أصحاب وهناك صداقات تنشأ وتنبني على السراء والضراء ، وفي تراثنا العربي الكثير من الإيثارات بين الاصدقاء ، إن إيثار « حق الصديق» كما قال ابو الحسن النوري على « حظ النفس » من النوادر ، حيث يؤثر حق الصاحب على حقه ، ويرى الصحبة بلا إيثار حراماً ، وهذا الزاهد أبو حفص بن مسلم الحداد كان يدرك « الصداقة» تحت معنى « الفتوة» ويعرف الفتوة بكونها « اداة الانصاف» وترك مطالبة الانتصاف وقد فسّر الهجويري هذا المذهب في الإيثار فقال: وحقيقة الايثار هي أن يرعى الصاحب في الصحبة حق صاحبه ويتجاوز عن نصيبه في نصيبه ويتجشم التعب من اجل راحة صاحبه.‏‏

غير أن من مفكري العرب وحكمائهم من تفطن إلى أن الشأن في الصداقة الحقة ألا تلغي الحد الذي بينك وبين صديقك،فتكون أنت هو وهو أنت ، بل تكون بالاحرى أنت أنت وهو هو: مانعم الصديق أنت إن كنت لي في كل أمر موافقاً ، فمن أمر الصحبة الحقة ، هنا ، أن تعرف الحد الذي بينك وبينه ، فتكون أنت أنت وهوهو ، لا أنت هو ولا هو أنت ، بمعنى أن من أصول الصداقة التي عليها تتأسس « حفظ المسافة» بينك وبين الصديق ، بحيث تكون منه ويكون منك من غير قرب يمل ، ولا بعد ينسي.‏‏

وقد دعت الحكماء إلى «صون» الصادقة والحفاظ عليها في سوية على الدوام ودعو الى تجديد الصداقة وتعهدها أبداً.‏‏

قال بعض الحكماء « لا تتكل على طول الصحبة ، وجدّد المودة في كل حين ، فطول الصحبة إذا لم يتعهد ست المودة ولئن شبه ابن المعتز المودة بالسفر فقال:‏‏

لا يزال الاخوان يسافرون في المودة حتى يبلغوا الثقة ، فإذا بلغوها ألقوا عصا التسيار ، وأطمأنت بهم الدار فإن من حكماء العرب من رأوا في المودة السفر الدائم الذي لا إستقرار فيه وإنما الشأن فيه التجدد المتصل ، اذ الصداقة مما لا يتناهى تعهداً.‏‏

اشكرك يا سيدتي الفيروز ، ان هذا التعاطف بيني وبينك من انقى انواع الصداقة الحقة ، اشكرك لهذا الخوف عليّ، كأني احد افراد اسرتك ، بل أقرب الاقرباء لك ، لم نتعرف على بعضنا بالوجه ، ولكن صرت اعرفك جيداً وأعرف صدق معدنك وأصالتك ما افتقدته شخصياً من كثير من الاقارب والعقارب!!‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية