تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


خلل بنيوي في السياسة الاقتصادية السورية

اقتصاديات
الثلاثاء 2-3-2010م
سمير سعيفان

يبرز بوضوح اليوم خلل في رسم وتنفيذ السياسة الاقتصادية السورية ينتج اثاراً سلبية اقتصادية واجتماعية ويتجلى الخلل في اختلال التوازن بين القطاعات الاساسية المنتجة للدخل والتي لا تنمو بالمستوى الممكن والمطلوب مثل الزراعة والصناعة والبناء والتشييد

وبين القطاعات الخدمية التي تحصل على دخلها من خلال اقتطاع جزء من ناتج القطاعات الاساسية المنتجة لقاء الخدمات التي تقدمها لها والتي تنمو وتتوسع باسرع واوسع من القطاعات الاساسية المنتجة للدخل مثل المصارف والتأمين والصرافة وسوق المال والتجارة وهذا الخلل يضعف قدرة الاقتصاد السوري على انتاج الدخل مما ينتج اثارا اقتصادية ضارة تتجلى بقوة اكبر مع مرور الزمن.‏

حتى الان يتم تركيز برامج الاصلاح الاقتصادي على اصلاح قطاع المال والنقد والتجارة فتم وضع السياسات واصدار التشريعات وتنفيذها على الارض ومتابعة احتياجات استكمالها بينما لم تحظ القطاعات الاساسية المنتجة للدخل اكثر من خطط بقي تنفيذها ضعيفا على الارض نقول هذا ونحن نعلم ان تنمية القطاعات الاساسية اكثر صعوبة لانها هي المولدة للدخل هنا يظهر التأثر بالسياسة الاقتصادية لليبرالية الجديدة في النمط الانكلوساكسوني.‏

تراجع الاقتصاد الحقيقي‏

ان سياسة الاصلاح الاقتصادية الجديدة في المجمل وخاصة بعد 2005 لم تؤد الى تطوير القطاعات الاساسية المنتجة للدخل فمقابل نمو القطاع المالي وهو الجزء الاسهل من الاصلاح لم يتحقق اي نمو في الزراعة بل ادى الى تراجعها ويلقي بعضهم اللوم على السماء ليغطي العيوب الجوهرية في رسم السياسة الاقتصادية وتنفيذها وانتاج النفط مستمر في تراجعه مما يرتب فاتورة باهظة التكاليف على اقتصادنا.‏

ورغم التقدم في انتاج الغاز فانه يسد حاجتنا حتى 2015 فقط وسنعود بعدها الى استيراد الغاز باسعار مرتفعة والصناعات التحويلية بعد ان شهدت نموا حتى عام 2006 بدأت تتراجع بعد تحرير الاستيراد المستعجل وغير المدروس اذ يتم التضحية بالصناعة على مذبح اوهام ليبرالية صندوق النقد الدولي الذي يكيل الثناء لسياستنا الاقتصادية الجديدة فدول العالم تحرر التجارة كي تصدر اكثر بينما حررنا التجارة فاستوردنا اكثر بينما تراجعت صادراتنا وقد وصل عجز ميزاننا التجاري عام 2009 حتى 130 مليار ليرة سورية ولم تؤد سياستنا الاقتصادية الجديدة الى نمو قطاع البناء والتشييد ليقدم عرضا كافيا من المساكن لمختلف الفئات وخاصة للشريحة الواسعة من السكان وتؤدي السياسة الحالية لتراجع دور القطاع التعاوني واصبح سعر المسكن في سورية يفوق سعره في دول يرتفع متوسط دخل الفرد فيها عدة مرات عن مثيله في سورية.‏

تطور عقاري رأسمالي‏

هذا عدا الفوضى العمرانية واحياء المخالفات الجماعية الواسعة وعجز الحكومات خلال عقود عن وضع حد لهذه الظاهرة.‏

ونفس الامر ينطبق على العقارات التجارية بينما يتم التحضير لتنمية شركات التطوير العقاري الرأسمالي بوقف منح تراخيص للجمعيات التعاونية السكنية وهذا مثال على تفضيل لمصالح الفئات الغنية الضيقة على الفئات الشعبية الواسعة ولم تؤد السياسة الاقتصادية الى تطوير قطاعات خدمية منتجة مثل صناعة التصاميم والدراسات الهندسية الميكانيكية والمعمارية وخلق سوق دولية لها تعود بعوائد على السوريين واقتصادهم وبقيت صناعة البرمجيات متواضعة ولم تولها الدولة الاهتمام الذي تستحقه ولم ينم قطاع نقل سوري بالسيارات برأسمال سوري وعبر سورية من اوروبا نحو البلدان العربية او العكس ولم تنم تجارة ترانزيت تنظمها شركات سورية وتخلق فوائض تعود على السوريين واقتصادهم.‏

ولم ينم قطاع سياحي قادر على جذب اعداد كبيرة من السياح الذين ينفقون انفاقا ذا جدوى بدلا من سياحة المجموعات الرخيصة غير المجدية.‏

ولم تنم القدرة الاستيعابية لاماكن المبيت التي تستوعب السائحين الا بشكل محدود حتى الان لذلك فإن القليلين يصدقون تصريحات وزارة السياحة عن ستة ملايين سائح.‏

ولم ينم قطاع بحث علمي بما في ذلك البحث العلمي الزراعي بالتعاون مع مؤسسات بحث في دول متقدمة بما يخلقه من قيم مضافة مرتفعة وبقيت القدرة العلمية لسورية متخلفة وتعاني سورية من تبعية تكنولوجية وعلمية شديدة.‏

إصلاح في القطاع المالي‏

ومقابل اهمال القطاعات المنتجة السلعية والخدمية تم التركيز على اصلاح القطاع المالي والتجاري ورغم اهمية وضرورة تطوير القطاع المالي والتجاري لنشاط الاقتصاد الوطني وقطاعاته الاساسية المنتجة فإن هذا لا يشفع للسياسة الاقتصادية عدم نجاحها في تنمية القطاعات المنتجة فالقطاعات اساسية منتجة قوية سلعية وخدمية فان القطاعات الخدمية رغم ضرورتها فإنها تقوم على القطاعات المنتجة و على خدمتها فإن لم يكن ثمة قطاعاً تفقد المالية ساحة نشاطها والكثير من دورها وحتى هنا فإن مساهمة المصارف الخاصة وهي الجزء الاهم في القطاع المالي مازالت متواضعة جدا في تمويل الاستثمارات اذ لا تقوم عموما باقراض المشروعات الاستثمارية بل تركز نشاطها في تمويل التجارة وتجارة المفرق .‏

اي تساهم في تحريض الاستهلاك بينما ايداعاتها المرتفعة خلقت فيضا في سيولة المصارف الخاصة بالعملات الصعبة والعملة السورية فتقوم باستثمار ايداعاتها بالعملات الصعبة خارج سورية اما فائض سيولتها بالعملة السورية فهي تطالب بان يصدر المركزي سندات ايداع كي تكتتب المصارف الخاصة بها كي تؤمن ربحا مضمونا لها دون مساهمة فعلية في تنمية الانتاج مما يعظم سمة الريع في الاقتصاد وهذا عكس الهدف الذي قامت من اجله المصارف وهو تمويل التنمية وتنمية القطاعات الاقتصادية الاساسية المنتجة للدخل بما فيها التمويل الاستثماري.‏

ومقابل هذه القدرة الحكومية المرتفعة والتصميم على اقرار وتنفيذ اصلاح مالي ونقدي وتجاري واقرار سياسة التشاركية وهي تسمية دبلوماسية لاحد اشكال الخصخصة فان الحكومة تظهر ضعفا وترددا في الاصلاح الاداري واصلاح القطاع العام الاقتصادي فيستمر في تحقيق المزيد من الخسائر ويكون الان ومستقبلا تصفية شركاته هو الملاذ الوحيد.‏

ولعل ابرز شواهد خلل السياسة الحكومية ان تحرير التجارة الواسعة جرى مجانا وبارادة سورية منفردة اذ اضافة لاتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى 1997 واتفاقية الشراكة السورية التركية المؤسسة لمنطقة التجارة الحرة 2005 المرحب بهما فقد تم فتح باب الاستيراد على مصراعيه منذ 2005 ودون ان يرافقه اي برنامج لدعم قطاعات اقتصادية سلعية وخدمية مختارة ذات وزن واهمية وقدرة وقابلية يتم اختيارها بدراسات وفق معايير علمية وتطوير برامج خاصة بكل منها لرعايتها.‏

فاصبحت السلع تغزونا من الصين ومن اوروبا ومن غيرها دون القيام باصلاح الجمارك التي ينخرها الفساد فتصبح كجدار البيت المثقوب يدخل منه اللصوص بشهادات المنشأ المزورة او تهريبا عبر الحدود او عبر البوابات الجمركية او بطرق ملتوية اخرى للتهرب من دفع الرسوم الجمركية ما يلحق اكبر الضرر بالصناعة السورية وبخزينة الدولة ان ما جرى يمثل اختلالا في التوازن بين مصالح الصناعة ومصالح التجارة انه انتصار للتاجر على الصناعي انه غلبة للريع على الانتاج.‏

ومن الشواهد على اختلال السياسة وتنفيذها تراخي الحكومة في اصلاح الجمارك وفي اتمتتها وتراخيها في مكافحة التهرب الضريبي المرتفع اذ رغم خفض معدلات الضرائب في سورية الى مستويات ادنى من مستوياتها في الدول الرأسمالية فقد بقي التهرب الضريبي مرتفعا ولم يتم تنظيم جهد حقيقي لمكافحته بل جرى توسيع ضرائب المبيعات والاستعداد لتطبيق ضريبة القيمة المضافة وهي ضريبة غير عادلة بالتعريف اذ يدفعها المستهلك العادي غير القادر على الدفع لتعويض العبء الذي ينزلونه عن كاهل من يحققون الارباح الكبيرة القادرين على الدفع وان كان لابد من الاخذ بها فيجب ان لا يكون بمبالغة والا تكون تعويضا عن اعفاءات او تهرب من يحقق ارباحاً كبيرة.‏

والمثل الذي نكرره ان تحرير التجارة لم يفلح بزيادة صادراتنا وجعل التجارة مولدة للقيم المضافة عبر زيادة المتاجرة مع الخارج وتحسين شروطها بل تتراجع الصادرات السلعية ولم تنم الصادرات الخدمية والميزان التجاري يزداد عجزا وتضطر الحكومة لاستعمال جزء كبير من احتياطي الدولة لتغطية جزء من عجز الموازنة وتلبية احتياجاتها للسيولة اما الجزء الاخر من عجز الموازنة فيتم حله بطرق ضارة اجتماعيا اي بتقليص الانفاق الاستثماري وتقليص الدعم الحكومي للسلع الاساسية وخاصة الطاقة دون تعويض اصحاب الاجور عن كامل تأثير ارتفاعات الاسعار وارتفاع التضخم التي حدث ويحدث وهذا يخلق اثار اجتماعية ضارة.‏

خلل بين الاجور والاسعار‏

والمثال الاخر على الخلل هو الخلل بين الاجور والاسعار حيث يتم تحرير الاسعار بدون تحرير الاجور فقد بنيت معادلة نظام الاجور والاسعار في سورية في الستينات والسبعينات على اجور قليلة مقابل سلع وخدمات اساسية منخفضة السعر او مجانية واليوم يتم تحرير احد طرفي المعادلة اي اسعار السلع والخدمات وتقليص الدعم بينما يحتفظ بالهيكل الاساسي لنظام الاجور السابق بضغط من قطاع الاعمال وبدوافع خفض التكلفة وخفض نفقات الخزينة بدلا من العمل على زيادة ايرادات الخزينة من مكافحة التهرب الضريبي والجمركي ورفع الانتاجية.‏

اختلالات السياسة الاقتصادية تنعكس مزيداً من الاختلالات الاجتماعية فالبطالة وفرص العمل في الخارج تتقلص و خاصة بسبب الازمة الاقتصادية العالمية بينما لدينا فائض عمالة كبير سنويا تسببه معدلات الولادة المرتفعة التي عجزت الحكومة عن خفضها والتي تلتهم كل فوائض التنمية وليس لدى الحكومة رعاية قوة العمل السورية العاملة في الدول العربية لزيادة حصتها ولم يأخذ الاهتمام بالمغتربين بأكثر من ضجيج اعلامي لوزارة كل موازنتها لا تزيد عن 78 مليون ليرة سورية.‏

ارتفاعات اسعار لا تعوضها ارتفاعات في الاجور والنتيجة ارتفاع معدلات الفقر ويحدث اختلال اخر في توزيع الناتج حيث تنخفض حصة الاجور وترتفع حصة الارباح وتتجمع الارباح بأيدي اقل فأقل ويظهر هذا في نمو مظاهر الاستهلاك الباذخ مكونا قشرة سطحية وواجهة أمامية بينما يختفي تحت القشرة وخلف الواجهة بؤس يتزايد وتكون النتيجة في مثل هذه الحالات تزايد الجريمة وان كانت مازالت غير مرتفعة قياسا بدول اخرى ولكن الاتجاه هو الزيادة في الكمية وتغيير في النوعية الى جرائم اكثر تنظيما واكثر بشاعة.‏

من المتعارف عليه ان تقييم أي سياسة انما يقاس بنتائجها وهذه هي نتائجها ولا تختلف التقارير الحكومية غير المنشورة عن هذا التقييم.‏

ويبدو ان لا مصلحة لمن رسموا الخطط واكثروا من الوعود الوردية حينذاك ان يظهروا لنا النتائج.‏

وبمناسبة ذكر الخطط الخمسية نذكر ان خلل رسم السياسة يبدأ من وضعها فالخطة تشكل نظريا دليل لتوجيه النشاط الاقتصادي السوري على المستوى الكلي والقطاعي وهي تعد بعيدا عن اشراك قوى المجتمع بل وحتى اشراك الخبراء السوريين وهذا كان احد اسباب خلل الخطة الخمسية العاشرة ويبدو ان الامر بل وحتى اشراك الخبراء السوريين وهذا كان احد اسباب خلل الخطة الخمسية العاشرة ويبدو ان الامر يتكرر في الخطة الخمسية الحادية عشرة الان فاعدادها يحدث بصمت بينما المطلوب مشاركة اوسع واعداد ندوات وورش عمل اثناء اعداد الخطة لمناقشة توجهاتها ومحتواها فهي وثيقة وطنية وليست وثيقة حكومية داخلية فقط، لتجنب مزيد من الاختلال ونتائجه السلبية نعتقد ان هذا الوضع يتطلب اعادة نظر في رسم السياسة الاقتصادية بمجملها بدءا من الالية التي ترسم بها والاهداف الاقتصادية على المستويين الاجمالي والقطاعي القريبة والبعيدة.‏

وان تصاغ توجهات السياسة السورية اولا ضمن مابات يعرف بنموذج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي اعلنت سورية تبنيه دون ان تتصدى اي مؤسسة حكومية او حزبية حتى الان لتحديد ماهيته والمقصود به واهدافه وسياساته العامة والقطاعية الخ. ونعتقد ، ورغم أن الوقت اصبح ضيقاً، فإن ثمة فرصة مازالت أمامنا.‏

samirseifan@adc.com.sy

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية