تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


صــــــانع الحيــــــاة

آراء
الخميس 18-2-2010م
جلال خيربك

استيقظ آخر سهم في الجعبة ومضى إلى هدفه بتؤدة حتى تلاشى في اللامرئيّ! فقد كان مصاباً بفقدان الرؤية وبعمى الألوان!!..إذ كان يظنّ كل شيء أبيض!! وكل الدنيا دريئة له!!.. وعند انعطاف العودة كانت الجعبة فارغة والحصاد هواء!!.

كل شيء حوله تغير...وبإغفاءة أهل الكهف هذه: صارت الدنيا ترقص على رنين الأصفر وتصفّق للثياب والياقات البرّاقة! إذ تخفي تحتها طينة من خراب وأجساداً آدمية فيها شكل الإنسان بمظهر خلّاب!!.. طاش السهم وطوّحت الريح الدريئة وجنى المسنبلون كل غمار السنابل والبيادر وقعدوا على تلال من فضة وذهب،‏

وفاض عليهم الكيل وضاق بما يحوي!.‏

ومن ذلك الفيض الروحي الذي غمر الإنسان: تحدرت المسافات بين الممكن والمستحيل... كان الممكن شعاعاً شفّافاً يغمره النور، وكان المستحيل: ألّا يغادر المرء نورانيته الشفافة إلى آفاق من جحيم التخمة والترف والنعيم ونسيان الصيرورة والمآل، كانت المعادلة صعبة جداً والخيار بين حدّيها ضرب من اللامعقول!.‏

وعند انتهاء غفوة أهل الكهف: صحا الفيض النورانيّ ليجد نفسه قطيعاً مبعثراً في بيداء تسيّجها المستجدات وتملأ فلواتها شهوات الامتلاك والحيازة. وامتدت ستارة عمياء بين ما كان وما صار، وغدت الستارة سياجاً ونيراناً، وأسدل ظلامٌ طويل على الذكريات الغابرة حتى غدت أضحوكة (الجديد) و (تراث) الباحثين عن البياض في هذا المهمه القاتم الغشيم!.‏

تفلّتت من إسار الذكرى: ومضةٌ من نور وخبت في لحظات وهي تغطي عينيها حتى لا ترى ما فعل البشر بعالمهم الرحيب، والإخوة ببعضهم حيث غدا الدم والاستئثار: عنوان عصرهم الأسود وعلامة غدهم القادم!.‏

على مسرح اللامعقول ينتظر الإنسان غداً من سراب. ويقضي أيامه على رصيف المحطة آملاً قدوم القطار، إلا أنه لا يأتي، فقد غير سكته إلى عالم آخر يملؤه هباب الفحم بعد أن رحلت نعمة الضياء!. والإنسان الذي لا يحمل إلا الأمل: يصرّ على البقاء لأنه يرى قبساً من نور في آخر الأنفاق: ويحلو له أن يحلم وهو على قارعة الانتظار، فيغيب قلبه الأبيض في رحاب الذي لا يأتي، وتخدعه حلاوة التمني إذ يغيب في نورانية فياضة تمنح صبره، بعض الأمل وهو لا يحسب أن الأفق بعيد، بل هو أقرب من حبل الوريد وإن طال الغياب: فسيأتي بأوسمته البراقة الجديدة ليطويه عند الصحوة المفاجئة، ويصحبه في رحلة لا نهائية تغمر العباب!.‏

في زمن القحط والهباب، يصبح للنار طعم الخلاص، وللأحلام والأمل: دور القشة في لجة المياه!. ويتمطى حارس التمني وهو يصحو من حلمه الأزلي حاملاً سبحةً بيضاء من دموع الغافين على طراوة الأمل!. وينشر بيارقه الفاقعة: على هذه القرية الكونية ليطعم أملاً ويسقي أملاً ويملأ الذاكرة فيضاً من اليأس والقنوط!. في زمن القحط واليباب تتجلّى صور الإنسان من المهد إلى اللحد وهو يملأ الكون صخباً ويلوب دون كلل ليحصل على قبس من نار الوعي والإدراك فيغيب في رحلة أزلية قد لا يستطيع غيرها حتى يدق ناقوس السفر فيلملم ناره وأشياءه ويرخي عنان الرحيل!.‏

عند النقطة الفاصلة بين الوجود وعدمه تلوب الحياة باحثة عن الخلاص والبياض الأبديّ، فيصدمها السياج وفورة البقاء، فما زال الحلم بتغيير الكون ممكناً، لكن الأقدام الواثقة التي كانت تدقّ جلمود الطريق ينتظرها في عتمة المشوار ذلك السياج المستحيل، ومع تعبها وبلواها، ما زال الإيمان يملأ صدرها، وأن المستقبل والوجود هما ملكها الذي لا يزول!.‏

بين الحلم واليقظة تنسرح الحياة غير عابئة بما قد يكون. وتطوي في نفحاتها مطوّلات العذاب، والإصرار وهي تشهد ذلك الألق المنبعث من عيني الإنسان، فتشد أزره وترخي لعناده العنان، فما زال هو صانعها وهو سرّ وجودها، وما زال بياضه قادراً على مسح الهالات السوداء التي نفرت لها من كل مكان، ورغم آلاف العقبات التي تلقاه، ما زالت أقدامه راسخة في الأرض وواثقة من القدرة على تليين جلمود الطريق إنه الإنسان صانع الحياة وباعث الأمل، ويظل الواهب لها المعنى وسر الوجود.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية