تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار.. لا تغتر بامرأة ، ولا تثق بمال.. ولو كثر

آراء
الخميس 11-2-2010م
ياسين رفاعية

كثيراً ما نتعرف على رجال كانت ثقافتهم الحياة، أكثر مما يحصلون في المدارس والجامعات، بل يملكون من الحكمة ما لا يعرفه غيرهم من الأساتذة والاكاديميين، وإن كان علي أن اعتز برجل من هذه الرجالات فهو أبي، الذي ولد وعاش ومات أمياً .

إلا أنه كان أكثر ثقافة من الذين يتبجحون بثقافتهم المبتورة أو بفهمهم للحياة، وهو الذي تعلم وحفظ شعراً التقطه من صديق له دكتور في الأدب، يطلب منه أن يكرره أمامه مراراً فإذا به يلتقط الشعر ويكرره بينه وبين نفسه حتى يحفظه عن ظهر قلب مثل قوله:‏

متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم أو قوله: إياكم وفضول الكلام، فإنه يظهر من عيوبكم ما بطن، ويحرك عدوكم ما سكن، ويوم أنت فيه لا يدوم، ويوم مستقبل لا تدري ما حاله ولا تعرف أهله. وكلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل، وربما كان هذا الكلام آخر ما قاله لنا، ومنه: أجمع حكماء العرب والعجم على أن لا تحمل بطنك مالا يطيق، ولا تعمل عملاً لا ينفعك، ولا تغتر بامرأة ولا تثق بمال ولو كثر، ثم أغمض عينيه وهو يردد: والله تعالى أعلم. كانت أمي تنظر إلى هذا الرجل نظرات الإعجاب الكبير، وتراه أذكى رجل في العالم من شدة حبها له، وكادت تؤمن به شخصاً غير عادي، وتتساءل على بساطتها: من أين له هذا الكلام وأين تعلمه، كان يطلب منا أن نتحلق حوله متربعين على السجادة الحمراء، ويجلس هو على طراحة عالية، كأنه شيخ في المسجد، ثم يبدأ الكلام بعبارة : بسم الله الرحمن الرحيم..‏

يا أبنائي تركت لكم الاخلاق الحسنة، وحب الغير، ومساعدة اليتيم والضرير، لا تأكلوا إلا نصف عشاءكم وخذوا ما تبقى إلى الجارة الارملة الذي لم يترك لها زوجها الراحل إلا البيت الذي تسكنه وكنت ألمح من وراء عينيه - بعض الأحيان- خبثاً شيطانياً «لماذا لا يكون على مستوى الرجال الذين اصطفاهم الله، نظرات أمي كانت تخرجه عن طوره ، هذه النظرات التي تكبره فيها، تعطيه قيمة عالية، ففي رواياته وحكمه واساطيره يحكيها ، وهو ينظر في عيني أمي، فيزداد إعجاباً بنفسه إلى حد كبير، ومع ذلك لم يخرج عن حدوده كإنسان بسيط.‏

إن الإعجاب بالنفس- يقول- هو وسيلة إلى غاية أكبر ، إلى الطموح والتزود بالمعرفة، ويكرر: المعرفة تطيل حياة الإنسان ، يكتشف فيها مالم يعرفه من قبل، ويتندم لأن أمه بعد وفاة أبيه لم تدخله المدرسة، إذ اعتمدت عليه كلياً في الرزق والعيش، ودفعته إلى عراك الحياة وهو في العاشرة من عمره، ومع ذلك ، منذ يفاعته ، كان يبحث عن أصدقاء متعلمين ويتزود منهم بشتى صنوف المعرفة، أحبوه لذكائه ولقدرته على التقاط ما يتفوهون به من شعر وحكمة وثقافة وظل على الدوام إنساناً بسيطاً متواضعاً رغم نجاحه في الحياة عبر أعمال عديدة اتقنها، فاشترى البيت الذي نسكنه.. واعاد عمارته بجعله ثلاث شقق وزعها على أبنائه.. وساعد بقية أبنائه في شراء شقق لهم حتى يضمن لهم حياتهم .. وزوج بناته وساعد ازواجهن من ماله الخاص.. كان عبقرياً بامتياز.‏

وهو القائل: قراءة كتاب من مئتي صفحة تزيد اعمارنا مئتي يوم، العلوم يا أبنائي بحر لاقرار له، وكلما تعمق الإنسان بالعلم والمعرفة كبر إيمانه بالخالق عز وجل، كل ما ترونه من إنجازات وتقدم وحضارة ، وما نشأ منذ آلاف السنين ، وما نراه اليوم، هو نقطة في عقل الانسان، هو هذه الخيوط المعجونة بعضها ببعض في مؤخرة الرأس، والتي اسمها «المخ» الذي حجمه بحجم قبضة يد جنين.. يا فيلسوف يا أبي كيف تركتنا ؟‏

أنظر إلى تلك الصورة التي تتقدم المكتبة الجانبية ، فأراه واقفاً بكلابيته البيضاء، وعباءته البنية، وهو متكئ قليلاً على عصاه ذات المقبض الذهبي، فأجد فيه الأسطورة التي لا تتكرر أبداً. وفي مقدم الصورة أمي واقفة ضاحكة قصيرة القامة، ومستندة إليه، سعيدة جداً، كأنها في هذا الاستسلام الباهر تمتلك الأمان والسكينة وعبق الروح.‏

وهو يطل من فوق، لأنه كان طويل القامة، فتلوذ به إلى حد الالتصاق. لا أدري كم عمر هذه الصورة، عشرون سنة أو أكثر أو أقل، هي كنز لا ينضب، أنظر إليها فتهرع الحياة نحوي، وأكاد لشدة التأمل فيهما أجد نفسي في بيتنا القديم في حي العقيبة بدمشق، نجلس على البساط الأخضر، متحلقين، لا نمد أيدينا إلى الطعام قبل أن تمتد يده، يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فنردد وراءه: بسم الله الرحمن الرحيم. ثم يدعونا بصوته الحنون: تفضلوا، فنتفضل ونأكل كل شيء وها أنا بعد رحيل أمي وبعد رحيله، تفرقنا في أراضي الله الواسعة، وها أنا ذا وحيد في بيتي في بيروت بعد رحيل أمل جراح وابنتي لينا الشابة التي لحقت بأمها بعد سنة واحدة..‏

أحاول أن أجد شيئاً آكله، لا نسيت، كيف نسيت بسم الله الرحمن الرحيم...آه... تذكرت يا أبي.. وتذكرت كيف كنت تقول لنا لا تنسوا... هذه من نعم الله عليكم... بالفعل... وبهذه النعمة الطيبة، آكل. حتى يفرغ الصحن ولا يبقى شيء حسناً. الحمد لله. هذا البطن الذي لا يشبع. كل جهودنا في الحياة من أجل الأكل، كل الحياة طعام بطعام، إذا لم نأكل نموت، الطعام هو غذاء الإنسان، كيف تتوزع الأشياء المفيدة في الجسم بهذه الحركة الآلية التي لا تهدأ، ثم نرمي ما تبقى في بيت الخلاء، كيف يمتص الجسم البوتاسيوم ، والمغنيسيوم والفيتامينات على أنواعها:»ألف» و»باء» و»س». هذا لنبض القلب، وذاك لتنقية الدم، وهذه لراحة الكبد، وتلك لتقوية النظر، يصبح الجسم معملاً نشطاً يفرز كل ما يفيده بذكاء عجيب، ليظل الإنسان على قيد الحياة: يمشي، يأكل، ينام، يستيقظ، يذهب إلى العمل‏

يمارس الجنس، ليعود، ويأكل من جديد، ويمشي من جديد، وينام ويستيقظ، ويذهب إلى العمل مجدداً، ويمارس الجنس.. وهكذا دواليك... حياة الناس متشابهة. من هذه الناحية.. ولكن يبقى الفن والإبداع فوق كل ذلك، الشعر، والرواية، والمسرح، والغناء، والموسيقى، ولولا ذلك، لتشبهت حياتنا بحياة الحيوانات في الغابة، نعيش لنأكل.‏

كان الخواء أحياناً، يخلط عليِّ الصور والذكريات، يمزج الماضي بالحاضر، فلا أعرف أيهما الحاضر وأيهما الماضي. تذكرت قصة رواها لي قاض في المحكمة أن رجلاً فقيراً قفز إلى أحد البيوت ودخل المطبخ وشرع يلتهم كل ما طالته يده من الطعام.‏

انتبهت صاحبة البيت فاتصلت بالشرطة. أسرعت الشرطة وألقت القبض على الرجل واقتيد إلى السجن بتهمة السرقة، كان المسكين جائعاً ولم يحتمل أكثر مما احتمل، كان يريد لقمة خبز تسدّ له جوعه فأودع السجن. ولما حان وقت محاكمته أدرك القاضي بحدسه النظيف أن الرجل ليس لصاً، وإنما كان جائعاً حقاً، كما أن سجله عند الشرطة كان نظيفاً، فبرأه من تهمة السرقة وحكم عليه بالسجن بضعة أيام بتهمة التعدي على أملاك الغير، وأطلق سراحه لأنه كان قد قضى في السجن أضعاف الأيام التي حكم بها، وكان الرجل لا يريد الخروج من السجن، لأن الطعام متوفر فيه، القاضي الذي أدرك ماذا يدور في رأس الرجل سعى له أن يعمل ناطور بناية عند أحد الأثرياء.‏

فكان الرجل يترك محل عمله في أوقات فراغه ويذهب إلى حيث يقيم القاضي، فيكنس الرصيف القريب من بيت القاضي من دون أن يعرف أحد، لماذا كان يفعل ذلك؟ إنه الإحساس برد الجميل، وذات يوم انتبه القاضي، وقال في نفسه إن هذا الرجل ليس غريباً عني، خرج ليشكره، فخجل الرجل من نفسه وبكى. وقال للقاضي إن منعتني من ذلك سأحزن مدى العمر، فلم يمانع القاضي شرط أن يتناول منه أجراً على عمله، فرفض، ولم يعد يمارس تكنيس رصيف بيت القاضي.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية