تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الدولة المستباحة من نهاية التاريخ إلى بداية الجغرافيا

دراسات
الأربعاء 27/4/2005م
مصطفى أنطاكي

( تكون حياة فقيرة وبغيضة وفظة وقصيرة.. ولكي يهرب الناس من هذا الوضع الطبيعي أبدعوا مخلوقات مصطنعة لها السيادة, وأخذت تهيمن بالسيف.

أبدعوا وحوشا أسطورية كبرى, وقد كانت هذه القوى الفاعلة الأساسية في التاريخ هي هذه الوحوش الأسطورية الكبرى التي كانت لمنظمات كلية كبيرة شاملة ومركبة بقدر كاف للسيطرة على المجالات التي تتم فيها العمليات).‏

توماس هوبز:‏

هل انتهت الدولة السيدة بعدما بلغت كمالها? هذا هو المقصود من هذا الكتاب, يتألف الكتاب الذي وضعه بجدارة الكاتب محمود حيدر من 430 صفحة توزعت على إحدى عشر فصلا ومقدمة وفهرس للإعلام وآخر للأماكن.‏

لا أحد يدري إلى أي مآل سيصبح عليه العالم بعد نحو عقد من نهاية الحرب الباردة, كل شيء بدا كما لو أنه يستعيد البدايات الأولى لحروب الجغرافيا السياسية, والاستراتيجيون الدوليون الذين أخذتهم الحيرة مما هو حادث, قالوا إن شيئا واحدا نحن على يقين منه و هو أن جبال افغانستان ووهادها وشعوبها الصابرة, وأرض العراق الممتدة في حراك التاريخ أعادت الاعتبار إلى مقولة الأرض العارية..! إذ عند هذه المقولة بالذات استعاد من أنهوا التاريخ الهدنة مع أنفسهم ليقرروا أن الجغرافيا لا تزال حية ترزق.‏

لقد أصبح سؤال الدولة السيدة سؤالا عالميا بلا منازع.. إنه سؤال ذاتي بالنسبة إلى أميركا.. وهي تحاول قيادة عالم منفلت بالقوة.. وهو كذلك سؤال يعني كل دولة فشلت في استعادة سيادة منقوصة من خلال الحرب الباردة وما بعدها مثلما يعني الأمم المتحدة التي لا سيادة لها إلا في ضمير العالم الغائب.‏

إن سيادة الدولة هي أحد المصطلحات المهمة في القانون, وفي العلم السياسي وتكوين الدولة ومفهوم السيادة عريق في القدم وغامض -ولكنه يمثل الخاصة الرئيسية للدولة والعنصر الحقيقي في وجودها- ويعني به القوة العليا للسيادة.‏

وحول استراتيجيات الإعلام بعد أحداث 11 أيلول 2001 - امبريالية الصوت والصورة- يقول المؤلف: كانت حرب الخليج الثانية توشك على النهاية حين كتب عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار مقالته الشهيرة بعنوان (حرب الخليج لن تقع).. كان العنوان لافتا في لا معقوليته.. فالحرب وقعت وجرى ما جرى.. مما نعرف .. ومما بقي داخل صناديق الأسرار السوداء, لكن بودريار شاهد عاصفة الصحراء وسمعها من مصادر الخبر المرئي والمسموع فقال:( حين يراقب العالم الحرب على شاشة التلفزة يشعر أن الحرب لا توجد في الواقع بل فقط على تلك الشاشات ... لقد شاهدنا الواقع ولكن على شاشة التلفزيون, المرآة الكونية التلفزيون أصبح أكثر من مرآة.. لقد أصبح هو وأخباره ميدان المعركة نفسه).‏

لم تنشأ الامبراطورية الإعلامية الأميركية من فراغ فهي تدخل دخولا عميقا في رؤية أميركا الشمولية لنفسها وللعالم الذي أمامها, ولذلك كان لمؤسسة الإعلام الأميركية دور يتعدى الجانب المهني - التجاري ليمضي بعيدا في التبشير الإيديولوجي بالبعد الرسالي لأميركا - رسالة مفتوحة إلى العالم وعلى هذا العالم أن يدرك أهدافها ويعرف أبعادها.‏

والآن: هل أميركا امبراطورية? هل هي امبريالية جديدة? أم أنها دولة /أمة من ذلك النوع السياسي الذي يمكث في منطقة استثنائية بعد حادثين تاريخيين متقاربين وعظيمي الشأن? نهاية الحرب الباردة 1990 وزلزال الحادي عشر من أيلول .2001‏

الكاتب هيرمان ملفيل يجيب على هذه التساؤلات بمنتهى الصراحة والوضوح فيقول: ( لا نستطيع إراقة قطرة واحدة من الدم الأميركي دون إراقة دم العالم كله, دَمُنا نحن أشبه بطوفان الأمازون مؤلف من مئات التيارات النبيلة المترافدة في مجرى واحد.. نحن لسنا أمة بمقدار ما نحن عالم).‏

وينتقل الكاتب بحسه السياسي ليتحدث عن دور الأمم المتحدة بين زمنين وعالمين متناقضين, عالم الحرب الباردة.. وعالم ما بعد سقوط نظام القطبية.‏

إن الأحداث الإقليمية والدولية تثبت جملة من الحقائق تتصل بالأمم المتحدة:‏

- تتعامل الولايات المتحدة مع الأمم المتحدة ومجلس الأمن كممر إجباري لتحقيق الإجماع الدولي حول استراتيجيتها الأمنية ومقتضيات نفوذها السياسي والاقتصادي.‏

- الحاجة إلى الأمم المتحدة تزداد إلحاحا بازدياد المعضلات الكونية حيث لا يمكن لدولة واحدة أن تتولاها وتحفظ ضوابطها.‏

- أميركا والدول الكبرى تعتبرها غطاء دوليا لسياساتها الخارجية, والدول الصغرى تعتبرها ملاذ الخلاص والإنقاذ.‏

- أي اقتراح دولي لنظام عالمي أكثر عدالة وشرعية وفاعلية لا يستطيع إلا أن يمر عبر المنظمة الدولية ومؤسساتها المختلفة ومبادئها الضامنة.‏

لقد استطاعت الامبراطورية الأميركية ( الدولة المستبيحة) أن تؤدلج لغة القوة لتجعل من الأمم المتحدة وهيئاتها المتعددة آليات لسيطرتها الاقتصادية والسياسية والأمنية, والعولمة الراهنة هي أممية بلا أخلاق لأنها أعادت عالم الإنسان إلى دوائر الخوف والاستلاب والغربة, وجعلت مؤسساته المدنية والحقوقية موضوعا للانتهاك اللامحدود.‏

إن القرن الواحد والعشرين سوف يضاعف من القلق المقيم على السيادة ذات الطيف السياسي المتلون .. تلك السيادة التي لم تعد قادرة على النمو والتجلي بحسب ما أراد لها أهلها في خلال نصف قرن من نعيم الحرب الباردة, فالذي حصل أدخل السيادات القومية إلى فضاء الخيبة .. فكانت الاستباحة سمة الزمن ( دولة مستبيحة ودول مستباحة) الذي تترنح فيه .. إلا أن ثمة من يرنو إلى الوجه الآخر للاستباحة حيث انصرم التاريخ وظهرت الجغرافيا كسبيل نحو ميتافيزيقيا الحرية وعودة الدولة السيدة.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية