|
آراء ولعل العنصر الأكثر ظهورا في المأساة التي كتبها الشاعر الإغريقي سوفوكليس بعنوان(أوديب ملكا) هو عنصر معرفي بالدرجة الأولى,ذلك أن الوحش الإسطوري الذي رابط أمام المدينة اليونانية,كان يطرح على الناس سؤالا معرفيا في جوهره. ولأن للمعرفة هذه الأهمية وهذه الجوهرية سميّ أرسطو المعلم الأول,وسمي الفارابي المعلم الثاني,والتفتت الأنظار منذ قرون طويلة الى رائعة الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (حي بن يقظان) فإن المعرفة كانت هي العقدة وهي الحبكة في هذه القصة الخالدة.... ومع تقدم الإنسانية والحضارة,تقدمت المعرفة كما وكيفا,وفي الآن ذاته خضعت للقانون الجدلي الأزلي ففي فعل التلفزيون? بل لعل التلفزيون,أضف الى ذلك الكمبيوتر والإنترنت بما يملكه من يسر وبساطة في الدخول الى البيوت والنفوس,صار الأكثر فعالية والأقدر على التدخل والتلاعب بمصائر الناس...لكنه قبل هذا وذاك ظل وسيلة معرفة هائلة.أداة تقدم المعرفة للجميع: الاطفال الذين يتكون وعيهم,والمراهقون الذين يتخلق فكرهم,والراشدون الذين يتفكرون بمعضلات حياتهم ومشكلات الكون.... أتذكر الآن فيلما للكاتبة الفرنسية الراحلة مرغريت دوراس بعنوان (الأطفال).هي في الأصل روائية معروفة لكنها أحبت السينما,فدخلتها من باب جانبي أولا,عنيت كتابة السيناريو السينمائي وهو ما فعلته يوم كتبت(هيروشيما...يا حبي) ثم انزلقت رويدا رويدا حتى أمست مخرجة سينمائية دون أن تقطع علاقتها بالأدب.بطل الفيلم الصغير يقرر ذات يوم ألا يعود الى المدرسة,فإذا به يوقع والديه ومدرسية في مأزق,والأنكى أنهم لم يستطيعوا أن يردوا عليه حين قال:إن المدرسة لم تعد تعطية جديدا.كيف? تحاول مرغريت دوراس أن توضح في فيلمها هذا أن ما يمكن أن يحصله الطفل وراء جدران المدرسة,أصبح أقل من تلك المعرفة التي يمكن أن تنقلها إليه وسائل الاتصال السمعية-البصرية الجديدة,وهي التي تحيط به من كل جانب:السينما,والإذاعات,والتلفزيونات...والعقول الإلكترونية المبرمجة. تتساءل دوراس:ما جدوى تنمية العقول وتغذيتها بالمعرفة إذا كانت هذه المعرفة مخزونة في العقول الإلكترونية...وما على الإنسان سوى أن يكبس زرا صغيرا ليحصل على كل شيء?! إنها مشكلة..مشكلة حقيقية,ربما لم تأخذ حجمها الحقيقي بعد,وقد لا تأخذه في الأعوام القليلة القادمة... لكنها ستنفجر بكل قوة وحدة في هذا القرن الحادي والعشرين.... كان أحدهم يقول :يمكن اختزال قصة الحضارة بكلمات قليلة(صراع الكم والكيف).فهل أمست المعرفة مجموعة من المعلومات التي يمكن أن تختزن في شرائح كمبيوتر أو إنترنت,وهل يمكن أن تكون هذه المعلومات هي المعرفة نفسها?أيمكن أن نقترح مثلا أن المعلومات هي (كم) تراكمت فيه وقائع وأرقام وأن المعرفة,هي هذا الكم نفسه,بعد أن أضيف الى الإنسان,فأصبحت المعرفة هي الإنسان نفسه عالما?! وفي هذه الحالة نستطيع التصور أن هذه ستكون مشكلة المدرسة في الأيام القادمة: ذاك أن المدرسة,سواء أكانت قبل الجامعة أو معها,هي الإنسان زائدا المعلومات. لقد استعان كثير من أنظمة التربية المدرسية بالكمبيوتر والتلفزيون,ولكن...من أجل مسألة (معلوماتية) محددة,دون أن يكون في التصور أن هذه المعرفة سوف تؤدي الى حذف الدور الإنساني في قضية المعرفة. لابأس,فإن المعلومات جزء لا يتجزأ من المعرفة,ولكن...لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون هي المعرفة ذاتها..وإلا كان علينا أن نتخيل الكائنات البشرية,وقد أضحت أشكالا من (الروبوت).كل ما هنالك من فرق أن هذه مشحونة دما ولحما,وتلك مشحونة كهرباء. |
|