|
فضاءات ثقافية فبعد جهود خارقة ونبيلة وخبيرة بذلها نقاد وروائيون بإعادة قراءة كافكا الروائي والإنسان, وجدوا أن الصورة المصنّعة لكافكا هي واحدة من الجرائم الأدبية التي لا تغتفر, وأكبر أكذوبة في التاريخ الثقافي تم تسويقها من قبل نصّاب محترف وساذج, اكتسبت مع الزمن صلابة وقوة بسبب التكرار والعادة. ماكس برود كاتب فاشل وشاعر رديء- بل أردأ من كتب بلغته الوطنية باعتراف مواطنه الروائي الشهير ميلان كونديرا - لكن من الغريب أن يُقدّر لهذه الرداءة أن تصبح رؤية نقدية ووجهة نظر صلبة تبدِّل مزاج القرّاء والكتاب والدارسين على مدى عقود، مما يلقي ضوءاً، خارج نطاق السياق الأدبي أيضا، على قدرة هذا النوع من الاحتيال على التلاعب بعقول الناس، بل وبعقول نخب أدبية في جميع أنحاء العالم، وهو ما يشكل باعتراف الكثيرين من الذين اطلعوا على الحقائق في السنوات الأخيرة فضيحة تمس مناعة النخبة الأدبية من الاختراق وقدرتها على الفحص والتقبل والاستقلالية من جهة، ومن جهة ثانية، تشكل إحراجا لكثير من المؤلفات التي تعرضت لكافكا عبر مصادر ماكس برود. ولعل غضب الروائي التشيكي الأصل ميلان كونديرا وشعوره بفداحة الظلم الذي تعرض له كافكا ليس كمواطن لكافكا بل لروائي كبير شوّه دفعه إلى التعرض إلى هذه القضية و مناقشتها في ثلاثة كتب في التنظير الروائي وهي كل ما كتبه، بلا طموح نظري نقدي، في النقد الروائي. هذه الكتب هي: فن الرواية، الستارة، خيانة الوصايا، وفي مقابلات كانت تتم من قلب عزلته، خاصة وأن كونديرا نفسه يعرف هذا النوع من مشاعر الغبن والتجاوز والظلم, إذ كان ولا يزال ضحيتها لدرجة انه فرض عدم ترجمة رواياته إلى اللغة التشيكية الأم (من الفرنسية) بناء على موقف: وهو نفسه تعرض للتشويه. قدم كونديرا للعالم صورة ناصعة للروائي كافكا بعد إزالة الغبار والتشويه والتلفيق الذي قام به ماكس برود بتخطيط وتعمد, فاستغل فرصة علاقته بكافكا, كما استغل أكثر موت كافكا المبكر، بل موته، مجهولا، من النخبة الأدبية التشيكية تماما وعزلته عنها، ولأن كافكا ترك وصية إلى ماكس برود كوصي للتصرف بأعماله، ومن هنا شرع ماكس برود بتصنيع صورة مغايرة لكافكا تتناقض كليا مع الصورة الحقيقية: صورة الإنسان المرح واللطيف والفكه والعفوي بل الطفل، ومن غاياته أيضاً ما هو سياسي, نظرا لميول عنصرية صهيونية تكشفت في النهاية لدى ماكس برود. في كتابه (خيانة الوصايا) يصب ميلان كونديرا جام غضبه على ماكس برود ويعريه من كل أوراقه بالأدلة والوثائق ويعيد الاعتبار لصورة كافكا التي كان ماكس برود قد لفقها وهي صورة لا تقل ظلما عن محنة بطل رواية( المحاكمة) جوزيف ك. لكن لماذا لجأ ماكس برود إلى وصف كافكا بالقلق والعصابي والقديس الغامض والمريض والحاقد على الآخرين بناء على ذنوب مزعومة؟ إن هذه القداسة البشعة تتعلق بعالم ماكس برود نفسه ولا صلة لها بكافكا أبدا، وتتعلق بكل التلفيقات التي قام بها ابتداءً من تزوير وصية كافكا وتزوير حياته الشخصية وخلق صورة نمطية مستمرة حتى اليوم في عقول كثير من القراء في العالم وحتى تزوير جماليات الفن الروائي لهذا الروائي الكبير. إن ماكس برود شخصية سطحية ومحتالة استغل الهوية الدينية المشتركة مع كافكا ومعرفته به وعزلة كافكا، وجرّب وادعى لنفسه الكثير من الحرف الأدبية مثل ملحن وكاتب وشاعر ولم يظهر براعة أو قدرة في أي منها، وجاء موت كافكا الفاجع هدية غير متوقعة تحت عدة ظروف: وستكون الصورة أوضح إذا عرفنا أن ماكس برود( المدفون حاليا في يافا توفي في 20 كانون الأول 1968) هو صهيوني متعصب وعنصري, حاول في قلب مذابح دير ياسين، خداع الروائي الألماني المعروف هيرمان هيسه بالتضامن مع جرائم العصابات الإسرائيلية تلك الأيام في رسالة استغاثة، ولكن هيرمان هيسه عن وعي بتاريخ القضية أو وعي بشخصية ماكس برود المحتالة أو نزوع في معرفة الحقائق بعد الفحص والتأكد رفض التضامن مع ماكس برود، كما جاء في كتاب هيرمان هيسه:(عندما تبدأ الحرب) وهو مجموعة مقالات عن الحرب والأدب والحرية والمذكرات، في موقف يجسد شخصية هيرمان هيسه المستقلة وكبرياء روائي ومثقف غير قابل للخداع من نصّاب مبتذل، كما تكشّفت سيرته في الربع الأخير من القرن الماضي إذا كان الاحتيال ينجح في السياسة وفي التجارة، في العلم والطب، في الصناعة وفي المال، وفي غير هذه الحقول، فإنه لن يجدي أبداً في الأدب، لأنه الحقل الوحيد، مع الفن، الذي يصبح فيه الاحتيال ضرباً من الخبل والانتحار وجريمة تزوير لضمائر الناس، ولعنة كافكا التي تطارد ماكس برود، ميتاً، ليست الدليل الوحيد على ذلك، بل انها الدليل الجديد على ان الأدب والكذب أمران متناقضان بتعبير رسول حمزاتوف. |
|