|
مسرح من جراء تلك الحوارات التي أعيدت كثيرا، عبارات تتكرر، يدرك قائلها ،أنها فارغة المعاني و بدون جدوى، إن كان عبر الالتزام بها ،أو بكونها وسيلة للتخاطب و التفاهم والتفاعل ،أو وسيلة ما لتحريك الحياة ،أو الدفع بها إلى الأمام ،إنها صور يائسة لبشر حقيقيين، هذه الصورة تأكدت و تكررت مرارا و تكرارا بصورة فنية و آلية درامية ،بلورت مقولة العرض المسرحي (المراقب) المأخوذ عن محطة فيكتوريا ل (هارولد بنتر) على صالة مسرح (فواز الساجر )في المعهد العالي للفنون المسرحية،وقد تم تحويله إلى نص محلي ،عبر الاستحضار لمجموعة من المعطيات الدرامية المتنوعة ،ليمكن إسقاط بعض من عوالمه الإنسانية العامة، ومقاربتها مع الواقع المحلي ،فتلك الحضارة والحداثة المزعومة، التي ازدهر فيها الجانب المادي والتكنولوجيا والسرعة ،تهتم بكل شيء عدا الإنسان ،لذلك أرخت بثقلها على الجميع ،وجعلته صورة عنها ،في تصرفاته العمياء ،في أنانيته ، بعدم إحساسه بالآخرين ،في حصر أهدافه بالحصول على المال ،وكل ما يخدم جمعه ليس إلا ، حيث أجادت أجواء العرض ،عبر الحوارات والديكور والإضاءة التي ساعدت على الإيحاء بالتموضع الخاص للشخصيات،كما ساعدت المعطيات الدرامية الأخرى ،للإيحاء بأفكارها ومضمونها،والأحداث التي يجترها العرض عن قصد ، ثم الشخصيات المتقولبة ،حيث ساهمت ، في تصوير ذاك الجمود الإنساني والإنسان ،الذي استهلكت روحه تلك الحضارة ،وحولته إلى نموذج ،بات يشبه الآلة،التي تعيد و تكرر حركاتها بشكل ميكانيكي دون معنى أو وظيفة أو أداء جديد،أما الأرواح تجتر و تعيد آلامها ، عاجزة بالمطلق عن تجاوز سجنها المزدوج، ما بين جوانيتها المقيدة، و محيطها الأكثر قيودا، فالمراقب وراء مكتبه،كأنه مسجون في برج مراقبته ، و السائق الذي يتلقى الأوامر منه ، و بالتالي إيصالها إلى الآخرين من السائقين الذين يعملون ضمن شركة نقل ،إلا أن آلية نقل الأوامر المتكررة أظهرت أنها تتجه لجميع الناس ،لتصبح تلك المشهدية المسرحية المكثفة في شكل علاقاتها وهمومها صورة مصغرة عن المجتمع ،وقد بدا كل منهم قد استهلكته هذه الحالة بشكل من الأشكال ،رغم الرغبة بالتخلص من هذه الحالة المقيتة، و الخروج من تلك الدائرة المغلقة بإحكام ، التي تعيد إنتاج نفسها دوما ،ويظهر ذلك في تكرار الأوامر، ثم المماطلة المستمرة،لاسيما في إحضار أحد الزبائن القادمين من الخارج ، بهدف الحصول على الورثة، فالأمر يتكرر والرفض يتكرر بشكل متواتر ،لتلعب هذه الحالة أكثر من وظيفة درامية ،الأولى الدوران في حلقة مفرغة من الفعل ،ومن ثم النزوع إلى التمرد، لكن من دون طائل ،ورغم غرائبية (التيمة )التي انتهجها عرض (المراقب) ،إلا أنه استطاع أن ينقل ويغربل خلاصة انعكاسات حياتية بدقة ،من خلال البلورة لإيحاءات وإشارات وحوارات وحالات درامية، تلخص وتكثف ،كل ما مر في حياة الشخصيات ،ونظرائهم من الناس في الحياة ، فلا نستغرب بالتالي أي من الأخطاء أو السلبيات المحتملة الحضور على لسان تلك الشخصيات ،لان عبثية الحوار تعني الكثير، و فوضويته المقصودة توحي بعدم أهمية الكلام أو جدواه كيفما كان، و هذا يعبر بحد ذاته عن بيئة عامة واضحة المعالم في كل اتجاهاتها ،وقد أوصلت إنسانها إلى هذه الحالة، حيث تمكن المخرج بتعميم حالة السائق و المراقب، عبر حلول إخراجية ودرامية خاصة ،اعتمدت أسلوبا ، يعادل دراميا الأفكار المطروحة بامتياز،كما تمكن من التعبير عنها،عبر مجموعة سلوكيات مستعارة من الواقع رغم سماجتها ،لكن عناصر العمل المتقنة،حولتها إلى شكل إبداعي خاص ،لاسيما من خلال إمكانيته التقديم للعديد من المقترحات الدرامية ،التي تفضح ما اقترف بحق الإنسان ،تحت عنوانين المتغيرات الحضارية ،وقد شارك نجاح العناصر الفنية في نقل كل ذلك، بدء من التمثيل إلى الديكور البسيط بشكل كبير ،وكأنه يراد الإيحاء من بساطته أن الإنسان هو الأهم أولا وأخرا ، فلا ديكور فخم ومبهر،ولا سخاء ولا بهرجة، قد تواسي ظلمه ،أو فقر روحه ، فلماذا يتم إهماله، وهو الأساس لكل شيء،وقد بين العرض كيف تحجر العقل،وأظلمت الروح ،وضاعت البوصلة الضامنة لإنسانيته،وأصبح كل فرد بمثابة رقم يكرر ما يلقن به ،وإن حاول الهروب من ذلك ،فانه يفشل ،ولا مفر له إلا الخضوع لهذه الظروف، وها هو المراقب جالس في مكتبه،كأنه بحكم المسجون،وقد وصلت مشاعره إلى تبلد مخيف إلى درجة، تغيب فيها الدوافع إلى الثقة بأي إنسان كان ،أو حتى الرغبة بإقامة صداقات أو علاقات جديدة، و قد أصابه خواء روحي بسبب الطابع العام لتلك الحياة المادية و المادية فقط ،والتي يسيطر عليها اللهاث وراء المال فقط ،ثم العيش ضمن قواعد صارمة لضمانة الحصول عليه،لذلك كل من الشخصيات، سجن داخل ذاته من جهة، و داخل محيطه من جهة أخرى ،وأمسى الروتين الذي يحكم الجميع ،يحكم هاتين الشخصيتين اللتين استقطبتا في الحوارات الكثير من العبارات المكررة ،التي تعبر عن الفقر الروحي ،بسبب صنميه و نمطية الحياة،التي تعيشها تلك الشخصيات،فتحولتا بدورها إلى مجرد قوالب بلا روح، التي تعبر بدورها عن نماذج حياتية واسعة وعن شرائح اجتماعية متعددة،إذ أشار العمل على ذلك في مواقع عديدة،وعبر دلالات درامية كثيرة ،وأوحى أن تلك الحالات نماذج مصغرة عن المجتمع ،الذي يسيطر عليه القيم المادية دون غيرها ،تلك المسئولة عن الويلات التي يعيشها المجتمع الإنساني كافة . المراقب تأليف (هارولد بنتر) دراما تورجيا و إخراج (يامن محمد ) الممثلين (جمال المنير)(أسامة تيناوي) سينوغرافيا (وسام درويش) |
|