|
ثقافة - أقسم بالله العلي العظيم أن خيال ابني لم يفارق عيني منذ سبع سنوات. - لو يعود لنا الشيء العزيز الذي افتقدناه ونموت نحن.. حياتنا بدونهم يا الـ «العابد» يا ابن أمي.. لامعنى لها».. كلماتٌ لابدَّ أن تهزّ مشاعر كل من يقرأ «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» القصة التي تعود إلى عام 1974 والتي كتبها «الطاهر وطار» الأديب الجزائري الأكثر شهرة في العالم العربي, والذي تمنى ذات مرة أن يموت صادقاً كما يموت الشهداء, وأن ترتقي روحه إلى المقام الزكي, وهو ما اتَّضح في الكثير من رواياته. في هذه القصة التي كانت سبباً في شهرة «وطار» يحكي عن رسالةٍ رمزية يتلقاها الشيخ «العابد بن مسعود» من «مصطفى» ابنه الذي استشهد إبان الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي, والذي كتب لوالده وبعد سبعِ سنوات من استشهاده, بأنه وشهداء القرية جميعاً سيعودون إليها هذا الأسبوع. بيد أن «وطار» أراد من هذه القصة التي وإن لم تبدو واقعية إلا أن طريقة سردها تجعل القارئ يعيش مع الأب حالة الانتظار المتخيَّلة والإنسانية.. أراد أن يُذكِّر بتضحيات أكثر من مليون شهيد خاضوا حرب التحرير الوطنية ضد مستعمرٍ رغم شراسته وقسوته, استطاعوا انتزاع بلادهم منه, حتى وإن كان الثمن قافلة شهداءٍ مليونية. أيضاً, أراد أن يفضح الانتهازيين الذين لم يخلصوا للقضية وإنما حوَّلوها إلى مكاسب خاصة وبعيدة كل البعد عما تتطلبه الأخلاق الوطنية.. إنهم أولئك الخونة الذين تاجروا بوطنهم وقضيته وشهدائه والذين يوهمون الآخرين بأنهم يحبون الوطن ويعملون لأجله, ودون أن يكونوا سوى مزايدين ومفتقدين لكلٍّ إحساسٍ بالمسؤولية. من هؤلاء الخونة, منسِّق قسمة المجاهدين القدماء ومدير مدرسة القرية, الذي تقصَّد «وطار» أن يخاطبه بلسان والد الشهيد, وبهدفِ جعلنا نتخيَّل التعابير التي ارتسمت على وجهه عندما سأله الشيخ: «يا ترى’ ماذا يكون موقفك كرئيس بلدية القرية ومدير مدرستها, لو يعود «مصطفى» وشهداء القرية كلهم أو على الأقل بعضهم»؟.. قال هذا, فكان جواب الخائن عبارة عن حديث داخلي خاطب به نفسه قلقاً ومتوتراً وخائفاً, ذلك أنه يدرك تماماً بأن البوح به اعترافٌ صريح بخيانةٍ استحقَّ عليها ما وعده به «مصطفى» ذات يومٍ استرجعه بصمتٍ و هو يهذي: «لستُ أدري كيف بلغه أنني وشيت به إلى العدو وأن كميناً نُصبَ له في منزلي.. بقي العسكر متخفياً في منزلي شهراً ولم يحضر «مصطفى» أرسل لي رسالة يقول فيها: ستُغتال عاجلاً أو آجلاً يا عديم الضمير.. يا خائن وطنه». حتماً أدرك الشيخ «العابد» ما يجول في رأس الخائن الذي وشى بابنه للعدو لذا, تركه يصارع هواجسه ومضى يخاطب نفسه بألمٍ أدمى مشاعره الرافضة للخيانة.. ألم دفعه للتساؤل مسنكراً: «لستُ أدري ماذا يردِّد هؤلاء الخونة في دقائق الصمت التي يقفونها ترحُّماً على أرواح الشهداء.. هل يقولون: تعمدكم الله برحمته أيها الأبطال الذين آثرتم الموت على الحياة لتُسعِدوا وطنكم وإخوانكم, أم يقولون: أيها الرب. إنكَ لطيفٌ بعبادك, فلولا أنك أرحتنا منهم لما تيسَّر لنا أن ننعم في هذه الحياة؟». نكتفي, فحتماً وصلت الرسالة.. رسالة «وطار» التي هي حتماً رسالة كل إنسانٍ يعيش بلا أقنعة ويتكلم بما يشعر والأهم, رسالة من يموت وهي بيده تعلن لكلِّ خائنٍ أو انتهازيٍّ أو عدو بأن الوطن لا يُباع ولا يُشترى, وبأن من يفعل مصيره لعنة الوطن وأرواح ودماء شهدائه.. |
|