|
ملحق ثقافي ما بين عامي 1957 ـ 1963. عقب تخرجه وحتى العام 1970 وزع وقته بين العمل في مصنع للجلود ببرلين نهاراً، وممارسة الرسم ليلاً. في العام 1977 عاد إلى المدرسة التي تخرج منها أستاذاً زائراً، وأستاذاً دائماً للرسم عام 1980. يعيش الآن متفرغاً للرسم في برلين، وفي نفس الوقت، يتردد بين الحين والآخر، على مسقط رأسه دمشق. قبل مغادرته إلى برلين منتصف خمسينات القرن الماضي، والاستقرار الدائم فيها، أنجز الفنان مروان قصاب باشي في دمشق، مجموعة كبيرّة من الأعمال الفنيّة، الموزعة على الرسم والتصوير والنحت. نالت أعماله عدة جوائز منها، جائزة النحت الأولى في معرض الربيع بدمشق عام 1956، وجائزة كارل هوفر للرسم عام 1966، وجائزة فريِد تيلر عام 2002، وجائزة المنتدى الثقافي اللبناني للإبداع العربي عام 2005.
وضع الروائي العربي عبد الرحمن منيف كتاباً حول تجربته عام 1996 حمل عنوان «مروان قصاب باشي، رحلة الحياة والفن». في دمشق، أعلنت موهبة مروان عن نفسها، وفي برلين شبت وترعرعت ونضجت، وهذه الأخيرة، وزعتها على أنحاء العالم تحت اسم «مروان» وهي التي أعادته إلى دمشق، ممثلة بالمركز الثقافي الألماني «معهد غوته» عبر المعرض الاستعادي الذي شهده «خان أسعد باشا» في «سوق البزورية» بدمشق «نيسان 2005» والذي ضم 34 لوحة زيتيّة، ولوحة واحدة مائية، و102 دراسة خطيّة منفذة بالأبيض والأسود دعاها «المتتاليات»، إضافة إلى مجموعة من الرسائل المتبادلة بينه وبين صديقه الروائي عبد الرحمن منيف، وبعض الدراسات العفوية والوثائق الأخرى. أعمال المعرض، تعود إلى مرحلة ممتدة ما بين عامي 1947 و2002، ما جعل منها وثيقة هامة لتجربته الفنية المتشعبة، رغم غياب أعمال هامة عنها.
بدأت تجربة الفنان مروان قصاب باشي واقعيّة الملامح، ثم واقعيّة مختزلة مشوبة بروح الانطباعيّة تارة، وبتعبيريّة سورياليّة، تارةً أخرى. كما حملت تأثيرات واضحة، من الاتجاه الفني الواقعي السوريالي التزييني، الذي اشتغل عليه الفنان الأخوان «أدهم ونعيم إسماعيل» وكانت تربطه بهما صداقة وزمالة، وربما سكنه الهاجس نفسه الذي سكنهما آنذاك «خمسينيات القرن الماضي» وهو تحقيق فن معاصر، بملامح عربيّة إسلاميّة. في هذه المرحلة تململت تجربة الفنان قصاب باشي، وعاشت حالة من البحث والتجريب، تأرجحت خلالها، بين غالبية المدارس والاتجاهات الفنيّة، بدءاً بالواقعيّة البسيطة، فالانطباعيّة، فالدادائيّة، وصولاً إلى نوع من التجريديّة التعبيريّة التي اشتغل عليها عدد كبير من المصورين الألمان، ومنها انبثقت مرحلة الوجوه التي شهدت بدورها، تحولات عديدة، توجتها مرحلة الوجه المتماهي بجغرافية الأرض، وهي المرحلة الأهم والأبرز، في تجربته الفنيّة.
هيكلية المرأة بدأ اهتمام مروان قصاب باشي بالإنسان موضوعاً رئيساً لأعماله، منتصف ستينات القرن الماضي بلوحة حملت عنوان «امرأة وعصفور» نفذها عام 1956، وفيها يصوّر سيدة يقف على ذراعها عصفور، يبدو منها رأسها وجذعها، فوق خلفية بنفسجية مشوبة بتوشيحات برتقالية، وقد عالج المرأة والخلفية، بأقل ما يمكن من ألوان الأزرق والبنفسجي، مؤكداً على الرأس الذي بالكاد أشار إلى ملامحه. لقد بدا الفنان قصاب باشي في هذا العمل، شديد التقشف في الألوان، وكذلك في الخط «الرسم» الذي بالكاد حدد به هيكليّة المرأة. لعبة التكوين بعدها دخل على لعبة التكوين والقطوعات، فربط بين اليد وجزء من الوجه، أو بين الوجه وجزء من اليد ومساحات هندسية صماء. ثم بدأ يربط الوجه بجملة من الرموز والإشارات «عظام، أشلاء، أخشاب» كما في لوحتيه الخاصتين بالشاعر العراقي «بدر شاكر السياب». بعدها انتقل إلى الجسد الإنساني بكامله، فعالجه بصيغة تتماهى فيها السوريالية بالكاريكاتير، حيث تعمد التأكيد على وضعيات غريبة، وبالغ بحجم الرأس، وغيّب شخصاً خلف شخص، وعالج الأكف بأسلوب رمزي ضمنه إشارات ومعاني خاصة «كما في لوحته خدوج وسلسلة حملت عنوان ـ بدون عنوان ـ والعناق، ولقاء».
وبالتدريج، بدأت الشخوص هذه، تغيب من لوحته، لصالح الرأس الذي شغل كامل مساحة اللوحة. في البداية، أخذه بكامله، ثم قصره على منطقة العينين والأنف والفم والذقن، ثم اختصره إلى عين وأنف وفم، داخلاً وخارجاً، عليه بطريقة «الزووم» وبمعالجة فنية اقتصرت في البداية، على لون واحد، ثم على لونين ومشتقاتهما، ثم غزت الألوان بكل أطيافها ودرجاتها، هذا الوجه، ليتحول إلى ما يشبه الأرض المفعمة بالحياة والحركة وقوة التعبير الداخلي. تمثل هذه المرحلة، سلسلة الرؤوس المنفذة ما بين عامي 1970 ـ 1978.
على حين غرة، غادر مروان وجوهه الشبيهة بالأرض، إلى موضوع جديد هو «الطبيعة الصامتة» الذي مزج فيه بين الخواص التشكيليّة والتعبيريّة للمرحلة التجريديّة ـ التعبيريّة، ومرحلة الوجوه، حيث ثراء اللون، وانفعال اللمسة، ورهافة الخطوط، وعفوية المعالجة المفعمة بالإحساس والشفافية والتلقائية. الاختزال بعد الطبيعة الصامتة، انتقل إلى موضوع «الدمية» التي نفذ لها مجموعة من اللوحات، لا تبتعد كثيراً، كمعالجة، عما رأيناه في الوجوه والطبيعة الصامتة. فقد استمر فيها، مهرجان الألوان الحارة والباردة، المنضدة في جسد اللوحة، برهافة وعفوية نادرتين. في العام 1998، عاد مروان مرة أخرى إلى وجوهه، إنما برؤية جديدة، ومعالجة شديدة التلخيص والاختزال، وقف فيها في البرزخ الفاصل بين التشخيص والتجريد. في هذه الأعمال، تحوّل الوجه لديه إلى شكل طولاني، عالجه بأسلوبٍ تبقيعي. ولإبراز هيكليته العامة، ولتأكيد تكوينه، دمج البقع في الخلفية، أو رصفها بلون مضاد، لتتحول اللوحة إلى ما يشبه السجادة المشغولة بحرية من يمارس طقساً صوفياً خاصاً، تتبدل حالته الباردة والدافئة، السعيدة والكئيبة، المنطلقة والمنطوية، لكن أداة ممارسة هذا الطقس، ظلت هي هي: لمسة لونية أفقيّة وشاقوليّة، صغيرة وكبيرة، غامقة وفاتحة. لمسة متروكة في معمار اللوحة، بكثير من العفوية والخبرة، ومن هنا تحديداً، تأتي أهمية تجربة الفنان مروان قصاب باشي التي اتخذت من الوجه الإنساني، وسيلتها الرئيسة، للتعبير عن حالة القلق التي يعيشها صاحبها، تجاه ما يجري حوله، بلغة شديدة التكثيف والتباين، رغم وحدة النص التشكيلي، وتكرار مفرداته!! |
|