تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بكائياتنــــا المتوارثـــــة علـــــــى الأطـــــــــلال..

ثقافة
الجمعة 16-5-2014
 سوزان إبراهيم

كان الوقوف على أطلال الأهل والأحبة غرضاً شعرياً رئيساً لابد لأي شاعر عتيق أن يبدأ به, وإلا فإنه يشق عصا طاعة الشعر والشعراء الأولين واللاحقين حتى حين..

منذ (قفا نبكي ذكرى حبيب ومنزل) إلى ( يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي) ومن ثم (حي المنازل إذ لا نبتغي بدلاً بالدار دارا ولا الجيران جيرانا)..‏‏

قيل إن بعض المفسرين رأوا في الوقوف على الأطلال طقساً دينياً جاهلياً.. وهذا سر ثباته في مقدمة القصيدة الجاهلية كما اعتقدوا.‏‏

تغيرت الأغراض الشعرية, وتغير الشعر ذاته بين العمود والتفعيلة والحر والمنثور وغير ذلك تبعاً لتطور الحياة وثقافة الشعراء والمجتمع, لكن المعارك بين أتباع كل منها مازالت محتدمة, وآلاف المقالات كتبت للمنافحة عن كل نوع من الشعر. آلاف المقالات مازالت تدافع عن الشعر العمودي أو قصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر ولهذه الأخيرة معارك مازال وطيسها حامٍ! ولم يستوعب أتباع هذه الأنواع أن الساحة الشعرية تتسع لها جميعاً, وأن المنافسة بينها هي سمة إيجابية, ستنتج بفعل الزمن وتغير الذائقة مولوداً شعرياً جديداً.‏‏

حرب أخرى مازالت مندلعة على صفحات الجرائد ووسائل الاتصال الجماعي كالنت والفيسبوك وأعني النزال بين الورق والكتابة الالكترونية عبر أدواتها المتنوعة.‏‏

كالعادة ثمة من يؤيد الورق والكتاب الورقي لما فيه من حميمية واعتياد وسهولة تناول وتداول, وفي الجانب الآخر ثمة من يؤيد الكتابة الالكترونية باعتبارها الولد الشرعي لعصر مابعد الحداثة, وسهولة التواصل عبرها والسرعة الفائقة التي تتسم بها. لكل فريق مبررات تأييده ومبررات رفضه بالطبع, متناسين أن الأمر عائد في نهاية الأمر لفعل الزمن والذائقة الفردية لكل إنسان.‏‏

فيما يتعلق بي أناصر كل ما يتماشى مع ثقافة المجتمع, ومع ثقافة العصر بالدرجة الأولى, في الغرب استطاع المجتمع أن يردم الهوة بين منتجات العصر والحياة اليومية التي يحياها المواطن هناك, إذ تبدو متناغمة كل التناغم مع العادات والتقاليد, وحرص الإنسان هناك على القراءة, وانتشار كل ما يسهل خياراته مهما كانت.‏‏

أعتقد أن الانترنت متوفر بشكل سهل ومجاني أو ما يقترب من ذلك لدى الغرب, كما تتوفر كل وأحدث منتجات التقنية الالكترونية وبأسعار تتناسب ومداخيل الناس. هناك يحق لهم النقاش في موضوعة اختيار القراءة مثلاُ عبر الكتاب الورقي- حيث مئات وآلاف العناوين تصدر عن مطابعهم سنوياً- أو عبر أدوات القراءة الالكترونية- وهم ينتجون منها الكثير-.‏‏

حروبنا مستمرة على كل المستويات, وبخاصة الاجتماعية والسياسية, وبالتالي حروبنا الثقافية غير المثمرة مستمرة بطبيعة الحال. نحن مغرمون بالوقوف على أطلال ماضينا ومحاولة التمسك به وعدم مغادرته.‏‏

هل كان من الممكن أن يبقى الإنسان يكتب على ورق البردى مثلاُ أو على جلود الحيوانات أو ينقش رسائله على الحجارة؟ ألم يذهب ورق البردى إلى الاستخدام في مهارات أخرى كاللوحات المعروفة في مصر, ألم تُستخدم الجلود في صناعات أخرى أيضاً.........؟‏‏

لماذا لا يكون التقليل من استخدام الورق, أو الوصول إلى إلغائه, نتاجاً طبيعياً لتطور العلم, ألم ننته من الكتابة بقلم الحبر الشهير واستعضنا عنه بأقلام الحبر الناشف, وها نحن اليوم نكاد لا نمسك بالقلم بسبب الكومبيوتر! إن العلم لا يتوقف عند حميمياتنا وعواطفنا بل يبحث عن الجديد كل يوم ولا يعنيه الماضي وأدواته إلا كتاريخ يدلل على مدى وعمق التطور الذي شهده الإنسان أو بكلمة أكثر دقة: عقل الإنسان.‏‏

أعرف أن للأمر ناحية إيجابية في الاستغناء عن الورق كأن يتوقف قطع آلاف وآلاف الأشجار كل عام! كأن ينتقل الكتاب بصيغته الالكترونية بسرعة لا تتجاوز دقائق التحميل على الشبكة بعيداً عن الرقابات الكئيبة المعتادة, وأن يكون قادراً على ما يمكن تسميته السياحة الكتابية والانتقال بين أيدي القراء.‏‏

كما أعرف أن موقفي هذا لا يستسيغه آخرون كثر, ولكن من قال إن الجميع متشابه في المواقف والقناعات أو يجب أن يكونوا؟!‏‏

صحيح أن بعضنا يتمسك بخصوصية خط اليد, بعد أن قتل الكومبيوتر وأزرار لوحة مفاتيحه خط اليد الذي قد يكون بصمة شخصية لكل منا, لكن العصر لا ينتظر.. ولكل منا حرية الاختيار, لكن منطق العصر أقوى ومن أراد الوقوف على هامشه سيبقى بعيداً ومستثنى.‏‏

صحيح أن للورق حميمية اللمس والرائحة, لكن الأمر شخصي ويتعلق بذائقة الفرد, ولا يتعلق بمنطق تطور العلم.. قطار العلم ومنتجاته مستمرة, وستحدد المسافة التي تفصلنا عنه طبيعة مجتمعنا وفكرنا.‏‏

قد لا أحبذ إلغاء خصوصيات كل مجتمع, لكن ذلك لا يعني الابتعاد, وقطع سكة القطار كي لا يمر.‏‏

مصيبتنا في الشرق أن الفجوة بين تقاليد والمجتمع وعقائده ومعتقداته وبين التطور العلمي الهائل الذي يفرز بدوره قناعات جديدة, كبيرة وما من سبيل على ما يبدو لردمها سوى بتلك الحروب الكلامية والخطابية.‏‏

القطار يمضي ويمضي ونحن مازلنا نبكي على الأطلال.‏‏

suzan_ib@yahoo.com‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية