تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في ذكرى الفنان جريس سعد...مدخل لتحليل تنويعاته التعبيرية والتقنية

ثقافة
الأربعاء 7-1-2015
أديب مخزوم

تمر الذكرى السنوية لرحيل الفنان جريس سعد (1934- 2009) وتبقى لوحاته شاهدة على اصالته وحداثته وقوة لمساته، والذي يعرف جوانب المسار التشكيلي لفنه (مسيرة أكثر من أربعة عقود) يشعر أنه كان يقطف وبصورة دائمة الإيقاع المعماري المتغلغل في حركة البيوت القديمة في الريف والمدينة،

ولوحاته تبقى آتية من الشعر اللوني لجدلية العلاقة بين الوعي والإيقاعات المترسبة في القلب. فالوعي وحده لايشكل فسحة اللوحة، لابد من إضفاء المزيد من اللمسات العفوية على حركة الخطوط والألوان.‏

عمارة اللوحة‏

فالتكوين التشكيلي في لوحاته يدمج ما بين الإحساس بالقدرة على بناء عمارة اللوحة الواقعية، والإحساس بضرورة تحريك هذا البناء بضربات لونية متحركة وعفوية تعكس تراكمات تأملاته لمعطيات فنون وثقافة القرن العشرين.‏

فهو يرسم مشاهد العمارة القديمة والطبيعة والزهور والأشكال الإنسانية بأسلوب تصويري يتفاوت ما بين الواقعية واللمسات العفوية، وأحياناً يعالج أشكاله بلمسات صغيرة متوازية في أغلب الأحيان، وهذه الضربات المتجاورة تشكل مدخلاً حقيقياً لتغيير النظرة الجمالية تجاه تبعية العين لبعض الأساليب أو الطرق السائدة في معالجة أشكال الواقع. وهو بهذه الطريقة وعبر اللمسات الخاصة التي يضفيها على عناصر لوحته يمنح المسطح التصويري إيقاعية بصرية شاعرية معبرة عن لوحة فنية خاصة وحديثة.‏

هكذا نجد أن اللوحة على الرغم من أنها كانت تولد وتنتهي في أكثر الأحيان بصياغة تشخيصية، إلا أن أسلوبه وتقنيته الخاصة تجعلها تفترق عن تجارب الفنانين الذين عرفناهم، إذ من الواضح أن له طريقة خاصة في معالجة المادة اللونية، وهذه الطريقة تجعل السطح يميل نحو ملمس ونسيج بصري شديد التماس بشخصيته وبأحاسيسه المرهفة.‏

وحين نتحدث عن حضور المشهد الواقعي في لوحاته يكون في حسابنا أنه في تصويره للواقع، لم يكن يتوقف عند حدود الصياغة التسجيلية الباردة، وإنما كان يتجاوزها نحو دلالات التصويرالحديث، الذي يطل عبر الضربات اللونية العفوية التي تجمع بين الرقة والحدة، وبين الشفافية والكثافة.‏

وعلى رغم كل ما يمكن أن نذكره من أنه يبقى على اتصال بالصورة والواقع المرئي، فإننا نستطيع أن نلمس في بعض لوحاته التي قدمها في مراحل مختلفة، اتجاهاً نحو التبسيط، لاضفاء الذات الفنية على الموضوع، أكثر من الاتجاه نحو تصوير المشهد المألوف في الواقع المرئي.‏

تنوع أسلوبي‏

وفي أعماله الأخيرة قدم جريس سعد الشكل الذي يؤول إلى التبسيط والتجريد، في ضربات متتابعة ومتلاحقة ومنحازة بشكل واضح نحو المناخ اللوني الغنائي. هكذا استطاع كسر الشكل الواقعي الخارجي عبر إدخال ضربات فرشاة عريضة إلى اللوحة، لإيجاد اهتزازات بصرية في بنيتها بحيث أن الرؤية الفنية أصبحت تعكس ثقافة بصرية أكثر شمولية عن الفن الحديث.‏

وتدخل ضمن هذا الإطار لوحته (في القنيطرة) التي ركز فيها لإظهار الأشكال المعمارية والوجوه عبر خطوط سوداء مبسطة ومختزلة، وهنا يمكننا أن نلاحظ ابتعاده عن سلطة المشهد الواقعي بإضفاء مسحة خيالية ورمزية على عناصر اللوحة. فهو في هذه اللوحة، وفي لوحات أخرى قدمها في معارض سابقة، يعمل على توليف الأشكال ضمن صياغة لا تتقيد بالمنظور وبالقواعد التقليدية الأخرى المتبعة في رسم المنظر الواقعي.‏

وهذا يعني أنه في ممارسته الفنية يتدرج في صياغة لوحاته من تلك التي يكون المشهد مرسوماً فيها بطريقة واقعية، إلى تلك التي لا يتنكر فيها لحالته العاطفية عبر إضفاء اللمسات العفوية والمتحررة، إلى لوحات أخرى لا تخضع لمنطق التصوير الواقعي، بقدر ما تذهب لإضفاء المزيد من التنويع والتوليف الخيالي والرمزي الذي يجعل الأشكال تخرج عن القيود التي يعتمدها في لوحاته الواقعية.‏

ولعل هذا التنقل بين الرسم الواقعي والخيالي، وما يمكن إدراجه في إطار الرسم الرمزي والتجريدي، منح تجربته حيوية متجددة، بعيدة عن هاجس مسايرة طريقة الرسم بأسلوب واحد، هذه الطريقة التي جعلت الكثير من التجارب تدور في فلك التكرار والترداد الرتيب، دون أن تتوفر لديها القدرة على التجاوز والتجديد والتطوير.‏

facebook.com/adib.makhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية