تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


«الفـارس في إهـاب النمـر» وبأخــلاق عربيـــة..

ثقافة
الأربعاء 7-1-2015
هفاف ميهوب

من المعروف قيام كتَّاب الملاحم في القرون القديمة والوسطى بإلباسِ أبطالهم، ثوب الخرافة والغرابة، وبجعلهم عمالقة يمتلكون من القوة الخارقة،

ما لا يمتلكه الإنسان العادي، الإنسان الذي اختاره شاعر جورجيا الشهير «شوتا روستافيلي» بطل ملحمته «الفارس في إهاب النمر» وبقوته التي تكمن في اتِّحاده مع أناسٍ هدفهم جميعاً مقاتلة عدو واحد.‏

هكذا كان أبطال ملحمة «روستافيلي» الشاعر الذي عاش وشهدَ العصر الذهبي لجورجيا، العصر الذي سبق بثورته الفكرية الغرب، وليس في مجال الأدب وحده، بل في ميادين الفكر والفنون، وهو ماكان في عهد الملكة «تامار» التي لم تكتفِ بتوطيد دعائم حكمها ودحر المعتدين، وتعميمم الأمن والطمأنينة في بلادها، بل والتي كانت سبباً في جعل «جورجيا» تعرف في عهدها ماميّزها بالأكاديميات والمكتبات وبالفلسفة والثقافة والملاحم. تلك التي كان أهمها «الفارس في إهاب النمر» وليس لأفكارها الإنسانية التي تمكَّن «روستافيلي» من جعلها تحمل روح النهضة التي لم يتوصل أحد من معاصريه إلى بلوغها، إنما أيضاً لكونها وبالرغم من أنها وليدة القرن الثاني عشر لاتزال الملحمة التي حملت من الكمال والإعجاز، ماجعلها وعلى مرِّ العصور من أهمِ الآثار الأدبية الخالدة.‏

رغم كل ذلك، بقيت الوثائق التي تحكي عن حياة روستافيلي نادرة جداً وبسبب الغزوات الكثيرة التي مرت على جورجيا بعد حكمِ الملكة تامار ليكون أكثر ماعُرفَ عنه، ولادته في قرية روستافي الواقعة في إحدى مقاطعات جورجيا والتي حمل لقبها. أيضاً، كونهُ الأميرُ القائمُ على كل خزائن بلاط الملكة تامار. تلك الملكة التي أحبها حباً شديداً جعل اسمه يقترن باسمها في وطنه الذي قضى بعيداً عنه. حيث أقام بقية عمره وإلى أن ماتَ ودُفنَ في دير الصليب الجورجي في القدس. وفي هذا الديرُ لاتزال - وحسب الروايات - الأعمدة تحمل رسوماً تذكرُ هذا الشاعر وتُظهر صورته.‏

في بداية هذه الملحمة يذكر روستافيلي أنه اقتبس موضوعها، من قصة فارسية قديمة تدور أحداثها في ديار العرب والهند. لكن وحسب دارسوه فإن قصة ملحمته ليست سوى عن ملك جورجيا الذي تنازل لابنته تامار عن العرش.. الملكة ذاتها التي عشقها الشاعر، وبطريقةٍ أضناهُ مستحيلها الذي أودى به إلى فراق.‏

بينما كانت هي تكبر‏

كنتُ أنا أضعُ خُطاي على عتبة الشباب‏

فلمّا قدَّر الملك أنَّ ابنتهُ أصبحت صالحة للحكم‏

بنى لها قصراً صغيراً, لتُقيم فيه وحدها‏

في هذا القصر, أقامتْ التي أموتُ من أجلها‏

إنها ملحمة شعرية أسطورية بمضمونٍ عربي. ذلك أنه يتخيل أن بطله الذي ينصِّب ابنته على العرش وهو لايزال على قيد الحياة، هو ملكٌ على العرب.. بالمقابل ثمّة مملكة أخرى تقابل مملكة العرب وهي مملكة الهند. أيضاً يقوم ملكها بتنصيب ابنته الوحيدة على العرش.‏

أما عن الحكمة من هذه الملحمة، فهي الصداقة القوية التي ربطت بين كلٍّ من القائد العام لمملكة العرب، والقائد العام لمملكة الهند فعندما كان يتعرض أحدهما للمؤامرات والدسائس كان الآخر يسارع لمساعدته حتى وإن تعرَّض لأشدِّ أنواع المخاطر وهو ما يبين تأثّر «روستافيلي» بالملاحم العربية، حيث الشهامة والبطولة والوفاء بالعهد.‏

بيدَ أن أكثر ما تأثَّر به «روستافيلي» أيضاً وكان واضحاً في ملحمته، هو صورُ العشق العذري لدى العرب. ذاك الذي جعل العاشق فيه إنساناً مستعداً للتضحية بحياته من أجل معشوقته. تماماً كـما في صورِ عشقِ «جميل بثينة» و«قيس وليلى».‏

يدَّعي مجنون العشقِ عند العرب‏

ذاك المُحبّ الذي ينشدُ الكمال, ويسعى إليه مجنوناً‏

أن نشدانَ القممِ الشامخة‏

يُضني البدن, ويحيلُ المرء‏

ذاوياً.. ذاهلاً..‏

تنتهي الملحمة التي قدّم فيها «روستافيلي» العرب بشكلٍ رائع ومُشرق، وبما دلَّ به على أصالة وثقافة وقيمة الحضارة العربية. تنتهي بزواج القائد العام في مملكة العرب من ابنة الملك وكذلك القائد العام في مملكة الهند من ابنة ملكه ليكون ماختم به «روستافيلي»:‏

نعم هكذا انتهت..‏

هكذا انتهت قصَّتهم وكأنها حلمُ ليلة‏

لقد كتبتُها أنا -روستافيلي-‏

لآلهة الجورجيين التي تخدمها شمس الملك‏

نظمتُ هذه القصة شعراً‏

هي التي تبعثُ الخوف في الشرقِ والغرب‏

تغيظُ الخونة وتسرُّ الأوفياء‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية