تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الفــــارس الأسير.. وفي الليلة الظلماء يفتقد البـدر

ثقافة
الإثنين 25-11-2019
فاتن أحمد دعبول

لعل أول مايطالعنا من قراءة شعر أبي فراس الحمداني سواء في رومياته أم فخرياته وغزلياته ومنذراته ومناظراته وشعره السياسي الديني ورثائه، أنه صورة لتحرير ذاته وتخليص إرادته من قيود القهر والانحراف والتبعية.

إنه سمو الروح النقية في واقع يضج بالغدر والنفاق، وتطلع نحو الرونق والبهاء والصدق، ففي فخرياته نسمع جلجلة الفارس الجريء الذي يريد إزاحة كابوس الشر عن أكتاف البشرية المظلومة.‏

يقول د. حسين جمعة مؤلف كتاب «الفارس الأسير أبو فراس الحمداني» ربما ليست هي القراءة الوحيدة في سبر أسرار حياة أبي فراس الحمداني واكتناه طبيعة شعره ووظيفته، ولكنها قد تكون متفردة في ارتشاف بعض الرؤى الفنية والفكرية واللغوية من معاناة الفارس الأريب والشاعر الأديب الذي نشأ في بيئة ملأى بالفرسان والشعراء والنقاد وعلماء اللغة والبلاغة وفي طليعتهم سيف الدولة الذي اجتمع ببابه منهم مالم يجتمع لملك قبله أو أمير.‏

لقد جمعت الدراسة بين الشاهد والشعر الموثق لأبي فراس، والتحليل النقلي والعقلي على ضوء المنهج النقدي التاريخي والشعر والموثق لأبي فراس والتحليل النقدي الممحص لكل ماوصل إلينا من أخبار ونقول وآراء.‏

وقد احتفى الفصل الأول من الكتاب بحياة أبي فراس ومكانته ليثبت أصالة انتمائه العربي إلى بني حمدان بن حمدون العدوي التغلبي، ويختتم هذا الفصل بإطلالة مركزة على مكانته الشعرية لدى القدماء والمحدثين وأبرز تجلياتها الكبرى ومرتكزاتها التي جعلتهم يقدمونه على غيره.‏

أما الفصل الثاني «موضوعات شعره» أوجز الحديث عن الأمثال والحكم وبين عزوف أبي فراس عن المدح والهجاء وإن ألم بهما على نحو ما، لكن موضوعه المثير هو العتاب والشكوى والحنين الذي فاضت به رومياته.‏

ويأتي الفصل الثالث «ظواهر وخصائص» ليثبت أن موهبة أبي فراس وقدراته الفنية كانت تتحرك في غياهب البديهة والارتجال والثقافة واستلهام التراث، وقد تكاملت في رؤية معرفية مجبولة بحالاته النفسية ومصوغة أجزاء متلاحمة، واضحة وموجزة متينة وحلوة.‏

حقق شعره معايير الشعرية التي لبت عاطفته ورغباته، وصاغت أفكاره بدقة ووضوح وبأساليب متلاحمة الأجزاء موشاة بتكرار عذب رقيق فياض بالسرور والهموم وبجناس وطباق حقق وظيفة الاتصال بمثل مانشر ملامح الجمال بزينته التي اتسقت مع ذوق مرهف وسجية سليمة من دون تصنع أو تكلف.‏

استطاع أبو فراس أن يصنع السمو لنفسه بحكمة وحنكة ودراية وذكاء يستجيب لتطلعاته، على الرغم من أنه يذوب عاطفة شجية، فإذا كان قد حاز التقديم عند كثير من الدارسين والنقاد فلأنه حاز التفرد باختراع أفكار لم يسبق إليها، وأساليب لم يبتدعها غيره، وإن لم يكن له في مجال القصة أو الملاحم قدم راسخة، لأنه كان في ضفة الواقعية النفسية والاجتماعية، أو ضفة الواقعية الفنية التي تنتصر للإنسان وكرامته، وللجمال وطبيعته ووظيفته، فكان مع الحياة وللحياة، فاستحق الخلود.‏

ولاشك في أن السيرة التي نظمت حياة أبي فراس الحمداني تعد ثروة إبداعية شامخة بما فيها من أحداث جسام، وكذا كان شعره يجسد قيمة فنية متميزة بأسلوبه ومضمونه وهو «مشهور سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة والمتانة».‏

وقد بين الكاتب د. حسين جمعة في كتابه الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب للعام 2019 أن قراءته كانت قراءة للواقع والوجود في صميم استكناه الدلالة الشعرية للشاعر الفارس أبي فراس الحمداني وفق منهج بنيوي تكويني يعتمد تحليل النص ويستلهم في ضوئه مرجعياته التاريخية والأدبية والثقافية ليؤكد حضوره الحيوي بواقعية فنية تروم فضاء الإبداع الجمالي الفياض بالرؤى على مستويات عدة.‏

وهكذا لبس شعره ثوبا مذهبا وتزين بالوجدان اللاهب فغدا معادلا موضوعيا وفنيا لذاته وحياته وقدم خلوده بين يديه، وصدقت مقولته «وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر».‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية