|
الثورة وتلتها بعدها وقبل أن نستعيد أنفاسنا نحو ستة وعشرين عاماً من الانتداب الفرنسي الخبيث الذي أكمل ما لم ينتجه العثماني من قهرٍ وشرذمة، وفرض سياسات اقتصادية مؤسسة على سرقة الموارد واستنزافها، واستغلال كل شيء من أجل المصلحة الفرنسية، فضلاً عن شراء الذمم وتشكيل قوة ضاربة ظالمة تحمي مصالحها وشهواتها الاستعمارية
وتحقق لها أهدافها مثلما فعلت بفرض النظام الإقطاعي كنظام سائد للاقتصاد الزراعي يقوم على تمليك الأراضي لقلة من الناس الذين ارتضوا أن يحالفوا العدو ضد أبناء جلدتهم، والإبقاء على عامة الشعب كأجراء بائسين عندهم، يعانون من الجهل والفقر والتخلّف، يلهثون ولا يلحقون، ولا همّ لهم سوى أن يفوزوا بلقمة بسيطة كي لا يتضوّرون جوعاً، ناهيك عما كان يعانيه عامة الشعب من الحياة الاجتماعية القاسية فلا صحّة ولا تعليم ولا خدمات .. ولا .. ولا .. يذكرنا ما يجري اليوم على أرض سورية المجد، ليس فقط لذكرى الجلاء في عيده الوطني الكبير بقيام ثوار سورية الحقيقيين من تحرير البلاد من هذا العدوان الاستعماري الفرنسي الغاصب، وإنما لأننا نشتمُّ أيضاً رائحة ذلك العدوان البغيض والاستعمار المجرم ضد بلادنا وهو ينفث أنفاسه النتنة من فرنسا وما لفَّ لفّها من قوى غربية ليحرقوا هذا البلد المقاوم فيطلّون برؤوسهم كالوحوش الكاسرة، لا بل خجلت الوحوش مما يفعلون، وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية كلها، ليعيدوا أمجادهم الفارغة وليكملوا على ما تبقى في هذا البلد، ولكن حساب البيدر اليوم ليس كحساب الحقل ولن يكون . الاقتصاد السوري بمنظور ( الحضارة ) الفرنسية الثورة الفرنسية العظيمة التي كانت ولا تزال مُختطفة من قبل وحوش السياسة في هذا البلد الذين أثبتوا وعلى مرّ الدّهر والزمان أنهم أصغر من مبادئها السامية القائمة على احترام الإنسان والنهوض به، ومقاسهم ليس على مقاسها، ولا يشفع لهم أن يتغنّوا بها على اليمين، ويحطّموا أسسها ومبادئها على الشمال، وليس كافياً إطلاقاً ولا مُعبّراً عن جوهرها بأن تكتفي هذه ( الفرنسا ) بالحفاظ على مبادئ الثورة على أراضيها بين الحين والآخر، وتنسى - أو تتناسى - إشعاعاتها العابرة للحدود التي تدّعي وتزعم، فلسنا نحن الذين نبحث فقط عن ( الإخاء .. والحرية .. والمساواة ) وعن ( حقوق الإنسان والمواطن ) في التصرفات الفرنسية اليوم ومنذ مئات سنين ثورتها ( المزعومة ) ولا نجد شيئاً من هذا، وإنما الفرنسيون أنفسهم يدركون جيداً أنهم بمنأى عن تلك الثورة العظيمة بمبادئها من خلال فصول التطبيق التي كانت ولا تزال تناقضها حتى النخاع ..! فأي إخاء وقد استعمرت شعوباً في آسيا وأفريقيا ومارست عليها الظلم والقهر ..؟! وأي حرية وقد كبّلت بلداناً بحالها وأحكمت إغلاق الغلال عليها ونهبتها..؟! وأي مساواة وهي ماضية إلى اليوم بدقّ أسافين الفرقة بين الناس واستعبادهم ..؟! ثم أي حقوق إنسان وهي الهدّارة لها في كل تاريخها، من نابليون بونابرت في مصر وغيرها، إلى غورو في سورية، وصولاً إلى حقوق الإنسان التي ( أهداها ) ساركوزي إلى ليبيا، وانتهاء عند حقوق المواطن التي ( يهديها ) هولاند ( العظيم ) اليوم إلى شعبه بطحن أبنائه في مالي..؟! كل هذا من أجل الإخاء والحرية والمساواة وحقوق الإنسان والمواطن ..!! ولكن يبدو أننا لم نفهم عليهم .. وأجزم أنهم هم لم يفهموا على أنفسهم ..! على كل حال من ضروب الإخاء والحرية والمساواة وحقوق الإنسان عمدت فرنسا إلى خلق واختلاق كل ما من شأنه أن يُشكّل أحمالاً يعاني منها الشعب السوري أثناء الانتداب الفرنسي الاستعماري على سورية، لتأمين مصالحها الاستعمارية والحفاظ على استمرار خطوط الإمداد الاقتصادية من سورية من خلال نهب واستنزاف مواردها الوطنية، ففرضت سياسة نهب لخاماتنا ، وجعلت من بلادنا ملاذاً واسعاً لتسويق منتجاتها الصناعية، ولتثبيت ذلك فرضت - كما أشرنا - النظام الإقطاعي لتتحكّم بالغلال والعباد، فضلاً عما افتعلته فرنسا ومنذ بداية الاحتلال بإخراج مسلسلات متتابعة من الأزمات انعكست على الاستقرار الأمني وبالتالي فقدان الثقة بالسوق التي راحت تتآكل حيث أعلنت عشرات حالات الإفلاس الرسمية لأعمال مختلفة، كما ازدادت الضرائب فخلقت تذمّراً شديداً عند من تبقى من المنتجين، وقسّمت البلاد ليتزامن ذلك من إجراءات جمركية شديدة بين أشلاء سورية التي ( تكرّمت) علينا بها فرنسا، فاشتعلت الأسعار بنيرانها غير المحتملة، وطبعاً لم تكن فرنسا عطوفة علينا إلى حدّ التفكير ( كنتاجٍ لثورتها العظيمة ) بأن تضخّ إلى الشعب السوري الذي تتحكّم بمصيره بشيء من الدّعم لا إلى مستحقيه ولا إلى غير مستحقيه، ويروي لنا آباؤنا وأجدادنا كيف كانوا يقتاتون خبز الشعير ويقتسمون كرابيج الذرة، لا ليُنفّذوا وصفة ( دايت ) بالتأكيد، فلم يكونوا بحاجة إلى أي ( ريجيم ) لأن الدّهر الفرنسي كان يغذّيهم بما يكفي ويزيد من النحول الناجم عن دسم عذاباتهم وسوء معيشتهم، بل كانوا يقتاتون ويقتسمون ذلك لأن خبز القمح كان حلماً سريالياً لا داعي حتى لمجرد التفكير به، لأن الثورة الفرنسية ( العظيمة ) ضمنت لآبائنا وأجدادنا هذا الرّغد من العيش كله ..! ولم تنس فرنسا بعطفها علينا فرض قيود قاسية على التصدير كي لا يبقى لنا باب من الأبواب التي يمكن أن يردنا الخير منه إلا وتجعله موصداً، وطبعاً كل ذلك بحجج واهية وذرائع تستهدفنا كشعب، فكانت تمنع التصدير مثلاً - كما تزعم - من أجل تأمين حاجة جيشها، ثم ما الذي كنا ننتجه في تلك الأثناء ..؟ لا شيء تقريباً فهي لا تدعنا ننتج أصلاً، كانت زراعة التبغ فقط هي المزدهرة إلى أدنى درجات الازدهار، وإن كان يُنتج ما يمكن تصديره فالتصدير ممنوع من أجل ضمان تدخين عناصر الجيش الفرنسي أحفاد الثورة المظفّرة !! زراعة سورية من أجل فرنسا وحسب مبادئ الثورة الفرنسية ( العظيمة ) فرضت على الفرنسيين ( العظماء ) إرسال بعثات متخصصة لدراسة القطاع الزراعي وإجراء التجارب البحثية ليس كرمى لعيون السوريين وإنما من أجل أن تتغلغل حتى في أعماق الأرض لتعرف كيف تنهش بنا وتصادر أتعابنا وتسفح عرق الجباه المرهقة، فربطت الاقتصاد الزراعي السوري وهو الأساس هنا في بلادنا ولا يزال بالاقتصاد الفرنسي من باب النّهب هذا، وتحقيق مصالحها هي، فتحسّن بعض المحاصيل أثناء سنوات الانتداب لم ينعكس على الناس أكثر مما انعكس على المصالح الفرنسية . تخريب الصناعة والاقتصاد برعاية فرنسية أيضاً في مثل تلك الأجواء البائسة القاحلة ماذا كان يمكن للسوريين أن ينشطوا به في المجال الصناعي ..؟ كان هناك بعض الحرف البسيطة في الأغلب، وبعض الأعمال اليدوية التي لا تكاد تُذكر، غير أن ( الازدهار ) الفرنسي عمل على تقليص هذه الحرف من خلال التضييق على أصحابها لا لكي يطوّروا أنفسهم بالتأكيد، وإنما ليضيقوا ذرعاً بأعمالهم، وقد ضاق ذرع الكثيرين منهم وأفلسوا، فأصيبت الصناعة السورية بشبه شلل تام ولاسيما بعد تلك الحواجز الجمركية الشديدة على أرض الوطن الواحد المفروضة من سلطات الاحتلال، فضلاً عن شدّتها على الحدود الخارجية حيث صار من يريد أن يصدّر منتجاته من الخاسرين ..! ولم يكن من مصلحة العقلية الاستعمارية الفرنسية نجاح أية صناعة سورية أصلاً، لأنها كانت تتقصّد دائما الاستمرار في نهب المواد الأولية، وأمام هذا الفشل الذي غرسته في سورية اضطرت للبحث عن سبل تستفيد منها هي فأنشأت بعض المشاريع الاستثمارية المضمونة الربح كالمواصلات ومشاريع الماء والكهرباء وإصدار النقد وتحديث الموانئ والفنادق واستثمار أموالها في صناعة الإسفلت والتنقيب عن البترول، وقامت بعض رؤوس الأموال السورية وقتها بإقامة بعض مشاريع الغزل والنسيج التي نشأت تحت سيطرة الشركات الفرنسية الاحتكارية على المجال الصناعي، بما يضمن خدمة حربها الاستعمارية . وبطبيعة الحال لعب الموقع الجغرافي لسورية دوره البارز على الصعيد التجاري، فبمقدار أهميته الذي ينعكس عليها بالخير كان سبب البلاء كما هو الحال في هذه الأيام فهذه الثروة الجيوسياسية تبقى محطّ أنظار الطّامعين، ولكن سورية اليوم ليست كما هي بالأمس، فلن يتاح لا لفرنسا ولا لغيرها أن تكون المسيطرة على زراعتها وصناعتها وتجارتها أيضاً، ففرنسا استغلت هذا الواقع الطبيعي أثناء الاحتلال، وحاولت أن تجعل من سورية قاعدة اقتصادية لها فأغرقتها بالبضائع الفرنسية وأخضعتها لسياسة الباب المفتوح لتعوّض خساراتها التي رتبتها عليها الحرب العالمية الأولى التي أفضت بدمار شبه كامل للاقتصاد الفرنسي، وإعادة بناء جيشها وتسليحه . سورية اليوم بعد أن نهضت سورية باقتصادها زراعياً وصناعياً وتجارياً وسياحياً، ووضعت أقدامها على أبواب ازدهار اقتصادي حقيقي وامتلكت مفاتيح الأمن الغذائي وشبه الاكتفاء الصناعي، وتبادلات تجارية واسعة، ونشاط سياحي غير مسبوق، جاءتنا فرنسا من جديد بثورتها ( الغرّاء ) هي ومن في حلفها الغربي الاستعماري البغيض لينقضّوا على سورية كالوحوش الهائجة، أملاً في إعادة الزمان إلى الوراء والرجوع إلى تلك الأيام الظلامية السوداء المعتمة، ولكنهم هذه المرّة فشلوا في حساباتهم كلها، ولن يستطيعوا تحقيق سوى شيء واحد ينتظرهم : إنه الخيبة . يا فرنسا .. ونحن في عيد الجلاء حيث كان استقلالنا عن عبوديتك، شبعنا من عطاءات ثورتك المزيّفة لا بمبادئها السامية والنبيلة طبعاً، ولكن بفقدانها للحقيقة والواقع، فلا نجد ما ينضح بتلك المبادئ سوى الفقاعات، وبالنهاية لن يثبت على هذه الأرض إلا من صدقها ويروي أرضها، ويدير مصانعها، ويحرّك ركودها نحو خير شعبها، ويفديها بالروح وبالدماء، وإننا لقادمون .. يا فرنسا. |
|