تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


هربت الفكرة

معاً على الطريق
الإثنين 16-7-2012
أنيسة عبود

كانت الفكرة أن أكتب له. أعاتبه على الوداعات السريعة، وعلى الهمس الواشي.

كأنه لم يعد لدينا أسرار ننشرها على عتبة واقفة في الانتظار.. أو لم يعد عندنا مساءات نمسك بها في قصيدة فلا تهرب من الورق.. كانت الفكرة أن أكتب له وعنه وعن كل الذين غابوا وأطالوا الغياب.. لا يقبلون عتاباً ولا يريدون تذكيراً ولا يسمحون أن نمدّ أيدينا إلى ذاكرتهم لننبش الماضي منها ونضعه أمامهم ونقول لهم هكذا كنتم..هكذا صرتم.. وهكذا نحن تحولنا وأدرنا قلوبنا نحو الحزن..‏

...........................................‏

كانت الفكرة أن تكتبنا القصيدة.. تسوينا فكرة، ثم تصنع منا آلهة تسكن أعالي الشوق.. لكن الفكرة سرقت من أصابعي.. وعندما بحثت عنها في الحبر الذي أمامي انسكب الحبر، وملأ الورق الأبيض وغطاء الطاولة.. شعرت بالأسى فتركت قلمي وخرجت من غرفتي..لكني عندما حاولت إيجاد الفكرة.. ضاعت.. أو هي سرقت.. وربما قتلت لأني وجدت الورق قد تلون بالأحمر وفوقه قرص شمس يشبه شمسنا ووجوه تشبه وجوه الذين ننتظرهم كي يعودوا من جهة الشرق، أو من جهة الجنوب.. يعبرون حقول الزيتون ذات فجر ندي.. ينقرون على النوافذ المتعبة، ثم يلقون نظرة على الملفعين بالقهر.. يمررون قلوبهم على الأبواب الغافية ثم يمضون كما يمضي الضوء.‏

كانت الفكرة أن أرسم مدينة تشبه المدينة التي أحببناها معاً وأرسم له قاسيون الذي يمسي على المنعطفات التي انتظرته فيها.. لكن الفكرة صرخت خوفاً من السواطير التي راحت تمشي في العتمة وتطارد الأفكار التي تشبه فكرتي.. هربت الفكرة.‏

............................................‏

كانت الفكرة أن نلتقي..ونشرب القهوة معاً لا نخاف من الوشاة ولا من النمامين..ثم نعود مشياً على الأقدام من باب البحر إلى باب الميناء..نمر بقلعة المدينة ونستذكر مهرجاناتها وأحبتها والذين عبروا أدراجها.. وكانت الفكرة أن نوقظ النائمين في نواويسها ليحكوا قصة ذلك (العصملي اليهودي) الذي ذبح أبناء المدينة ورماهم في جب القلعة.. ذابت الأجساد.. لكن صراخهم وأنينهم أيقظ حراس القلعة فحكوا لهم قصة ذبحهم ورميهم في أنفاق القلعة..نامت القلعة وهدأت ضجة البحر لكن أرواح المظلومين ظلت تتمشى حول الحراس منذ مئات السنين حتى الآن.‏

..................................................................‏

كانت الفكرة تريد أن تنبه إلى ذات الشخص وذات اليهودي الذي يتبرع بالسواطير ذاتها.. فتتكرر المذابح.. وتتكرر القلاع والأنفاق والأرواح السابحة في الفضاء..‏

كانت الفكرة أن ينام الحراس، وتهدأ الأرواح..ونمضي من شارع البحر إلى شارع العمارة.. نأكل الذرة ونسلم على أهل المدينة الطيبين..‏

...............................................‏

كانت الفكرة تود أن تتذكر الماضي وتحذر من شايلوك العصر الجديد..لكن الفكرة خافت وانزوت وراء الكلام.. لا يجدي الحبر ولا البياض مع عقول مسحت تعاريج ذاكرتها..ونزعت قمح المحبة من خبزها.. لا يجدي الحبر أمام الدماء.‏

كانت الفكرة، تريد أن تسهر حتى الصباح.. وتنثر وردها المباح.. لكن الفكرة هربت.. وأنا خفت من البحث عنها.. فالشوارع خالية.. والبيوت مغلقة.. حتى الستائر صدّت عنها الضوء والكلام.. كأن المدينة تنام مع أهل الكهف.. لا حركة ولا نباح كلب ولا شاعر يطارد قصيدة.. ولا...., لا فكرة لدي..‏

...........................................‏

كانت الفكرة أن نأخذ البحر معنا.. أو نذهب معه.. نكتب على قميصه الأزرق مواويل وطن يسكن الروح.. صارت الفكرة تبكي على وطن يلبس ثوب الدم والسواطير.. أمسكت بالفكرة كي لا تهرب.. لكنها فرّت من أناملي.. كانت المدينة تمسح دموعها وكنت عاجزة عن التقاط فكرة ما سوى أن أمسح دموعي وأبدأ فكرة أخرى.. ستنتصر الفكرة الصادقة.‏

..................................................‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية