|
شؤون سياسية ويقوم على حالة من خداع النفس وتمنيتها خلافاً للواقع بأن السلام ممكن حتى مع من يرفضه ويتهرب منه علانية ويسعى إلى تفصيله على مقاس أطماعه في الأرض والحقوق والسيادة حتى يكون مقبولاً لديه. بم نسمي موقف هؤلاء الذين لا زالوا يراهنون على السلام مع طرف لا يؤمن بالسلام وكل توجهاته تصب في خانة تعطيل مسيرته وجهوده حتى وإن صدرت من أقرب حلفائه؟. هل نسميه موقف المرونة الذي يتخذونه ويراد به كشف أوجه التضاد في الموقف من السلام بين العرب وإسرائيل لكي يتأكد العالم من أن إسرائيل هي التي ترفض السلام وتوصد كل الأبواب المشرعة أمامه..؟ أم أن الوصف الأقرب لهذا الموقف هو أنه موقف «رومانسي» محض يحركه حلم أبعد ما يكون عن الواقع بإمكانية تحقيق ما لا يمكن تحقيقه في الواقع, وتدفع إليه نزعة الهروب من الالتزامات القومية التي تترتب عليهم في مواجهة تحديات الصراع بحكم انتمائهم العربي أمام جماهيرهم, حتى بدوا أمام رغبتهم الجامحة بالتحلل من هذه الالتزامات كمن يريد حلاً للصراع بأي ثمن حتى ولو كان بالمجان وعلى حساب القضية وحقوق الأمة وكرامتها؟!. سيرورة التطورات السياسية خلال الحقبة الزمنية الضيقة التي عشناها عبر السنوات التسع الماضية ترجح الاحتمال الثاني لتوصيف موقف هؤلاء, والسبب في ذلك هو وقوعهم في شرك مفهوم «الاعتدال» في الموقف من الصراع الذي سوقته إدارة بوش لأهداف استراتيجية عدة أبرزها شرخ وحدة الصف العربي حول مركزية القضية الفلسطينية لحرمانها من عمقها القومي, وإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي بسلام وحل أجوفين للانتقال إلى تحقيق اجماع استراتيجي جديد في المنطقة تكون إسرائيل طرفاً رئيساً فيه تهيئه لاستبدال الصراع معها بصراع «عربي- فارسي» يكون عوناً لأميركا وإسرائيل في تمرير ما استعصى من مشاريعهما الاستعمارية الهادفة إلى الهيمنة على المنطقة والسيطرة على مقدراتها والابقاء على الوجود العسكري الأميركي فيها تحت ذريعة الحاجة إلى دوره الأمني في خضم الصراع الجديد..!. ومن أسف أن هؤلاء صدقوا هذه الخدعة وتقمصوا صفة «الاعتدال» وأعادوا ترتيب مواقفهم وسياساتهم وبدأوا يمارسون أدواراً غريبة تجاه القضية تخطت كل الحدود لتصل إلى حد التواطؤ في العدوان على لبنان وغزة وإشاعة الخوف الكاذب من إيران وتعطيل اللقاءات العربية والتحامل على المقاومة واستقبال رموز التطرف الإسرائيلي ومساندة إسرائيل في التغطية على جرائم حربها في غزة لمنع إدانتها دولياً, والتنسيق معها بقيادة الجنرال الأميركي دايتون لتصفية معاقل المقاومة ورموزها في الضفة. يصدر كل هذا عن المعتدلين «الرومانسيين» في وقت يخلع فيه رمز العنصرية والتطرف أفيغدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلي صفة «الواقعية» على شخصه وفكره العنصري المحنط ويطالب العالم بأن يتعامل «بواقعية» مع عملية السلام تقوم على تجويفها واجتزائها من مضامينها لتتحول من عملية تهدف الى سلام حقيقي وممكن الى تسوية لا تبقي على شيء من حقوق العرب وأراضيهم المحتلة. انظروا البون الشاسع بين الواقعية على الطريقة الإسرائيلية والمرونة في «رومانسية» أهل الاعتدال: فليبرمان يقول بأن إسرائيل لا تؤمن باتفاق شامل مع الفلسطينيين حتى ولو بعد عشر سنوات, ويدعو إلى «الواقعية» في عملية السلام, في حين يذهب «الرومانسيون العرب» إلى التنسيق والتواطؤ في كل شيء مع إسرائيل, بل والصمت عن كل ما يقوله مسؤولوها من تصريحات تنضح بروائح العداء للسلام والعنصرية ضد العرب حين يركز هؤلاء على هدف الاعتراف العربي بيهودية إسرائيل ويعتبرونه شرطاً أساسياً للتفاوض, حتى إذا ما انتزعوه منهم رتبوا (ترانسفيراً) جديداً لعرب 48 بحجة أنهم ليسوا يهوداً وليس من حق من هو غير يهودي العيش في دولة يهودية.!. لقد أراد ليبرمان بتعبير الواقعية التي يدعو إليها وما فيها من الواقعية من شيء أن يتكيف العالم والعرب مع الواقع الذي أفرزه الاحتلال الصهيوني عبر أكثر من ستين عاماً وكان من أخطر سماته إقامة كيان عنصري في المنطقة على أسس استعمار إحلالي يقتلع شعب فلسطين من جذور أرضه وثقافته وتاريخه ويحل محله جموعاً مجمعة من اليهود تقتلع هي الأخرى من جذور انتماءاتها القومية وثقافة المجتمعات التي ولدت وعاشت فيها إلى فلسطين بأكذوبة أنها أرض الميعاد والخلاص التاريخي والوطن القومي. وباسم الواقعية يريد نتنياهو من العالم أن يسلم بوقائع الاستيطان الذي قضم منذ عدوان حزيران ثلاثة أرباع الأراضي الفلسطينية المحتلة بحجة أن تفكيك المستوطنات أمر غاية في الصعوبة والمطالبة به أشبه بالحملة النازية ضد اليهود على حد مزاعم نتنياهو. إن الصراع العربي- الإسرائيلي بسعة مشكلاته وتعقيداته الكثيرة, وكذلك معركة السلام القائمة بمتطلباتها الجلية الواضحة, تستوجبان مواقف أبعد ما تكون عن الرومانسية والأحلام الكاذبة, وأقرب ما تكون إلى الواقعية الحقيقية التي تكشف حقائق الصراع وتتمسك بالحقوق وترفض المساومة عليها. |
|