|
ثقافة ! فماذا تفعل السعادة إذاً وهي ما نفترضه نقيضاً للحزن؟ لماذا يكون عمر السعادة قصيراً جداً ويتطاول عمر الحزن والألم؟ وهل صحيح ما قاله شوبنهاور: « نحن نُحس بالألم إذا أصابنا.. ولا نحس بالخلو من الألم بعد فترة قصيرة من زواله..» أصحيح أننا لا ندرك معنى الأشياء ووجودها إلا عند فقدها؟ هنا يتابع شوبنهاور: طالما كنا مالكين لها لا نحس بوجودها، ولكي ندرك قيمتها لا بد لنا من فقدها أولاً، لأنها هي الأخرى سلبية, فكل ألم إذن إيجابي يشعرنا بوجوده حاضراً بقوة فينا، بينما السعادة سلبية صرفة لأنها خلو من الألم فحسب، أيَ عدمٌ مُطلق، ولهذا نُحسّ بلذع ألم واحد أقوى بكثير مما نحس بإمتاع آلاف اللذات، فألف متعة لا تعادل عذاباً واحداً " . حول السعادة والشقاء, كانت محاضرة الأستاذ " غيوم مورانو " في المركز الثقافي الفرنسي والتي تأتي كمحطة أولى ضمن سلسلة من المحاضرات يقدمها حول الفلسفة. يرى غيوم أن السعادة قضية إشكالية تقود للتساؤل : ما هي السعادة؟ لقد تناولت غالبية الفلسفات السعادة و أجمعت على أن كل إنسان راغب بالسعادة, ساعٍ إليها, فهي رغبة عالمية, ولذا نجدها في تعاليم سقراط وأفلاطون وأبيقور ولوكريشيوس وسينيكا وشيشرون والقديس أوغوستينوس وفي العصر الوسيط, وحتى عند فلاسفة الحداثة. لكل فرد مقاييسه وتعريفه للسعادة فقد يجدها أحدهم في المال أو السلطة أو الحب .... وقد شبه أفلاطون في ( الجمهورية ) كثرة الرغبات بحيوان له ألف رأس, والغريب أنه رغم زحمة أغراض الرغبة, يتعلق بها الإنسان لتقوده إلى نهاية واحدة.. السعادة . يتوصل غيوم للقول: السعادة ليست خيراً في جملة خيرات بل هي الخير الأسمى, الخير ذاته, الخير الذي ليس وسيلة بل غاية, الخير الذي ليس نسبياً بل مطلقاً! الجميع يرغب بالسعادة, لكنها تبدو في أغلب الأحيان متعذرة المنال, وقد يجدها بعضهم مرتبطة بالمصادفة السعيدة, أي الفأل السعيد أو الطالع الطيب الذي يدور لصالحنا. تعني كلمة السعادة باللاتينية ( الفأل الحسن ) إذاً قد تكون السعادة هي الحظ الحسن الذي يمكن أن تأتي به الظروف الخارجية لنا, فإذا كانت المصادفة ليست مواتية تضيع منا السعادة. والإشكالية تكمن أيضاً في أننا لا نرغب بالسعادة فقط, بل باستدامتها أيضاً , فلنقبل ما وصل إليه باسكال ( السعادة فسحة زمن وجيزة يجب التقاط أكثر ما يمكن منها قبل أن تزول ) لا تكمن مشكلة الإنسان في شقائه كما يرى غيوم, بل في تأرجحه الدائم بين الشقاء والسعادة حيث يبدو عاجزاً أمام هذا التناوب اللامنتهي. قد ننصح أحدهم بقولنا: استفد من ذلك ما دام موجوداً! هكذا تبدو السعادة انتظاراً لما سيزول, وقلق من فقدها , فتغدو السعادة قلقاً, والوعي القلق ليس وعياً شقياً, لكنه وعي سعيد أيضاً, القلق ليس الشقاء, لكنه تمثيل مسبق للشقاء القادم. إن القلق من فقدان السعادة سوف ينخرها من الداخل, فالسعادة الحاضرة ليست تامة أبداً ولذا نحن نؤجل التمتع بها دوماً إلى الغد! وهذا ما دفع باسكال للقول: نحن لا نحيا بل نأمل بأن نحيا! نحن لسنا سعداء ولسنا أشقياء تماماً لكننا بانتظار سعادة مقبلة. إن السعادة شعور لا يعاش إلا في الحاضر, إنها أشبه بغدٍ مشرق, لكن الغد قد لا يأتي أبداً, وكأنها موعد لا نفتأ ننتظره, لكننا نؤجله دوماً! ينتقل «غيوم» بعئذ إلى الشرط البشري في ضوء مفهوم السعادة, والذي يبدو شرطاً متناقضاً من حيث الأساس فكأن الإنسان يحمل تناقضاً غير محلول بين رغبته بالسعادة الشاملة وبين عجز لا يقل شمولاً عن تحقيقها, فإذا كان الشرط البشري هو هذا التناقض فيجب أن نستخلص أن الوجود الإنساني حالة مأساوية! لو فكرنا في البطل المأساوي القديم ( عند سوفوكليس أو سيلوس أو شكسبير ... ) نجد البطل في صراع دائم لا يحل, هنا تكمن مأساة الإنسان: بين الرغبة في السعادة واستحالة تحقيقها! في نهاية المطاف قد يتبادر إلى الذهن سؤال: ما الذي يبرهن أن للسعادة وجوداً حقيقياً؟ قد تكون مجرد تجريد, أو خيالاً من بنات أفكار الفلاسفة؟ لكن غيوم متيقن من أن السعادة ليست من ابتكار الفلاسفة, فالفيلسوف يعاين تلك الرغبة بالسعادة ويجتهد في معرفة كيف يمكن بلوغها بالحقيقة, فالحقيقة والسعادة مترادفتان تتلاقيان فالسعادة المستديمة لا تبلغ إلا من خلال معرفة الحقيقة. بقي أن أسألكم عن أي حقيقة نبحث؟ وما هي السعادة المنتظر تحققها بعد معرفتنا لها؟! |
|