تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار...الإبداع لا يأتي من فراغ.. بل من معاناة

آراء
الاربعاء 27/2/2008
ياسين رفاعية

كل الفنون نابعة من التأمل, أي فنان أو كاتب أو شاعر تبدأ حالة المخاض عنده في التأمل في الفكرة, في القصيدة في اللوحة لا يبدأ أي من هؤلاء العمل مباشرة, أو ما إن يجلس أمام الورقة البيضاء حتى يستطيع الكتابة من لا شيء.

إن كل أفكار الفنان تلعب حول لحظة البداية, لحظة شعلة اللوحة, لحظة تبلور القصيدة, لحظة ولادة القصة, بل إن الرواية معجونة في أفكار الكاتب قبل أن يتجرأ ويجلس لكتابتها.‏

وإن الإبداع لا يأتي من فراغ.. بل من المعاناة من اجتراح المعجزة واستنباط المعنى. إن القصيدة التي يقرأها المرء في دقائق هي في ذهن الشاعر تتحرك في فكره وقلبه وروحه ومشاعره بما يشبه الترداد الهادىء أو الصاخب في أعماق النفس.. إن بضعة أبيات من القصيدة تشغل الشاعر أياماً وربما شهوراً قبل أن يشعر أن باستطاعته الآن كتابتها, كذلك هي اللوحة, والقصة والرواية. فلا يظنن القارىء أن العمل الفني شيء سهل, وأن الموهبة وحدها لا تكفي, بل المران المستمر وإعادة الصياغة, وخلط الألوان ثم إزالتها لتحل محلها ألوان أخرى.‏

حتى الموسيقا, وهي أعلى درجات من كل الفنون, فإن النغمة الواحدة تعاد ألف مرة في ذهن المؤلف الموسيقي قبل أن يعتمدها لينتقل إلى نغمة أخرى. وهي عملية استنباط دون توقف حتى يأخذ اللحن مداه ويستقر في الأعماق قبل أن يستقر على أصابع البيانو أو على أوتار العود والبزق والكمان.‏

ثم في الموسيقا هذا الاندماج الكلي في اللحن المنفرد, لقد كان أمير البزق محمد عبد الكريم, وهو قزم لا يتجاوز طوله المتر الواحد وبضعة سنتمترات, عملاقاً على أهم قاعة في باريس عندما عزف على مدى ساعة ونصف ألحاناً من ذاكرته سحر بها الجمهور الفرنسي, الذي وقف مع انتهاء العزف, مصفقاً دون انقطاع ولأكثر من خمس دقائق للفنان العظيم, الذي تطاولت قامته من متر وبضعة سنتمترات إلى عشرة أو عشرين متراً وهو مزهو وباك من شدة الفرح.‏

كانوا يقولون إنه يخترع اللحن في لحظة عزفه, والحقيقة لم يكن هذا صحيحاً, كان يتأمل كثيراً, ويدوزن اللحن في روحه وقلبه لأيام عديدة قبل أن يجلس وراء آلته لعزف لحنه العظيم.‏

قس على ذلك بقية الفنانين الى أي فن انتموا في الموسيقا أو الشعر أو الكتابة القصصية أو الرسم.‏

هكذا, الفنان يدرب نعمة التأمل في روحه كي يضعها في سياق عمله الفني, وأحياناً,قد لا ننتبه إلى أن الفنان الجالس معنا لا يصغي إلينا, إنما يصغي إلى نداءات الروح والقلب والنفس. وتفوت الفنان أحاديث كثيرة لأنه في عالم آخر, عالم الإبداع وتشكيله. وهذا شيء من العذاب الذي هو أحلى على قلب الشاعر من السكر, ومن القبلة ومن المال, فالفنان المؤمن بموهبته. والحريص على التجديد, لا يهمه من متاع الدنيا غير فنه وإبداعه وإنجازه لكل عمل يريد الانتهاء منه لينصرف إلى التأمل في موضوع آخر.‏

هذه هي سيرة الفنانين العظام, هنا في الوطن وهنا في أنحاء العالم. وأحياناً يدفع الفنان ثمن فنه من صحته, ومن آماله وطموحه, بل أحياناً, تؤدي شعلة الفن إلى الجنون أو الموت أو الانتحار, هكذا كان مصير فان كوخ, ولؤي كيالي في جنونهما, وهكذا كان مصير عبد الباسط الصوفي وخليل حاوي في انتحارهما.. وغيرهم من الفنانين.‏

إن سلطة الفن على الفنان قوية جداً, إنها أحياناً, إذا تلكأ, تسوطه بسوط النار كي يذهب إلى عمله الفني دون تأخر وكم من فنانين ماتوا أمام لوحاتهم أو أعمالهم الإبداعية من شدة التأثر في الخلق الفني.‏

هؤلاء ناس غير عاديين, بل هؤلاء أبناء الحياة, الذين أرادوا, أن يبقوا فيها, من خلال أعمالهم, ولو أنهم ما توا من يتذكر اسم الملك البريطاني الذي كان في عهد بيتهوفن, من يتذكر اسم الرئيس الذي كان في عهد ناظم حكمت, من يتذكر اسم الوالي في دمشق في عهد أبو خليل القباني? ربما نتذكر.. لكن العامة من الناس لا يتذكرون.‏

ذهبت الملوك وذهب الرؤوساء وبقي فن محمد عبد الوهاب وصوت أم كلثوم وماري جبران وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهم من العمالقة يشدون بموسيقاهم وأصواتهم كأنهم أحياء بيننا يرزقون.‏

نعمة الفن, التي أعطاها الله للنخبة من عباده, هي أجمل النعم وأسخاها وأعلى مرتبة من الكنوز والذهب والأموال. هي نعمة التأمل أيضاً, التي من دونها لا يولد الفن .‏

للحبيبة التي هناك‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية