تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


بـــين جنونهــــــــا وإبداعهـــــــا .. ســيرافين دو سينليـس... أزهــــار لوحاتهــــا ربيــــع لكــــلِّ الفصـــول

ثقافة
الجمعة 6-2-2009م
مانيا معروف

أزهارها متوهجة..تضيء.. تتحرك .. تدهشك.. لعل ما اختزنته سيرافين في حواسها من الطبيعة جعلها ناقلاً أميناً عبر لوحاتها لكل ما تقع عيناها عليه من جمال الريف.. الطبيعة..

سيرافين دو سينليس بين الفن والجنون هو الحدث الذي استضافه الثقافي الفرنسي عبر شقين: عرض للفيلم ومحاضرة بعنوان: «سيرافين دوسينليس أو سر الإبداع» ألقتها د. فرانسواز كلوريك الفيلم عرض لأول مرة في تشرين الأول 2008 وما زال حتى الآن يعرض في الصالات الباريسية ملاقياً نجاحاً شعبياً منقطع النظير وهو مرشح لنيل تسع جوائز في حفل السيزار.. الفيلم يحكي قصة الرسامة سيرافين لويس وتؤدي دورها يولاند مورو.‏

من سيرافين‏

سيرافين لويس الملقبة سيرافين دوسينليس 1864- 1942 وهي فنانة فرنسية ارتبطت أعمالها بالفن الساذج تعلمت الرسم بنفسها مستوحية أعمالها من نوافذ الكنائس والصور الدينية.. لوحاتها مشبعة باللون والضوء‏

ولدت سيرافين في آرسي وهي مدينة صغيرة في مقاطعة لواز.. والدتها كانت تؤدي الأعمال المنزلية عند أصحاب المزارع وكان والدها مزارعاً.. ولدت سيرافين وكانا قد تجاوزا الأربعين من العمر.. تاريخ عائلتها كان مثقلاً.. فأصبحت يتيمة في سن مبكرة بعد وفاة عائلتها في فترات متقاربة لتبقى لها أختها «آرجنتين» التي اهتمت بها.. رغم الظروف القاسية التي عاشتها كبرت سيرافين وذاكرتها مليئة بالذكريات الصعبة التي جعلت منها طفلة متوحدة منفصلة عن الآخرين ولم يكن لديها أحلام الفتيات وألعابهن.. انطلقت للعمل في سن الثالثة عشرة كأمها تماماً تعمل في المنازل وقالت سيرافين هذه المرحلة /كنت أقوم بأعمالي السوداء/ وكان ذلك مناقضاً لأعمالها الفنية اللونية اللاحقة عام 1881 دخلت الدير وكانت تؤدي أعمال التنظيف ولم تكن متدينة لأنها لم تستطع أن تنذر نفسها للدير فهي بحاجة للمال، أمضت عشرون عاماً في الدير وقررت الخروج إلى الواقع تقول: (لقد بقيت طويلاً لأني وجدت نفسي بأمان ولم يكن العمل مضنياً) تقول المحاضرة أعتقد أن سيرافين غير قابلة للتصنيف وهي تفلت من كل زمان ومكان فالأمر يتعلق بفن بعيد عن الفن الثقافي كما لو أن سيرافين أعادت اختراع الرسم لنفسها.. لوحاتها تساعدنا على رفض كل شيء في خانات - على التوقف والاعتقاد بأن كل شيء قابل للقياس.. أن نستخرج من أعماقنا شيئاً من رغبتنا الخاصة من إبداعنا وجعله موجوداً.‏

الفن .. والجنون‏

تطرح سيرافين لغزين أحدهما يتعلق بالرسم والآخر بالجنون لأنها بفضل الرسم وجدت في العالم وأصبحنا نعرفها.. لكي ترسم كان عليها تجاوز الكثير من الحواجز كونها امرأة يتيمة فقيرة خادمة لديها جموح ومس في عقلها لذلك أصبح لها كيان جسدي خارج العالم العادي.. لقد تعرفت المحاضرة على سيرافين من خلال غلاف كتاب كتبه عالم النفس لوسيان دونافيه عام 1977 بعنوان (في هذه الليلة العامرة) وغلاف الكتاب عبارة عن لوحة لسيرافين عنوانها الشجرة الحمراء لتصبح موضوع أطروحة فرانسواز كلواريك.‏

عندما قررت سيرافين ترك الدير كانت في سن الثامنة والثلاثين.. تركت الأمان مجازفة بالضياع وتكثر الفرضيات حول ذلك فهل كانت الراهبات تسببن لها التعاسة أم مزاج سيرافين المتشكك كان وراء ذلك.. ربما هو الاستقلال.‏

في الأربعين من عمرها كان التحول في حياتها.. حيث انبثق الإبداع غير المتوقع إحدى الروايات تقول إن تصوراتها في الرسم في كاتدرائية سيدة سان لويس وهي تقول إنها سمعت العذراء تأمرها بالرسم.. إضافة لشعورها في الكاتدرائية بالبعد عن النميمة والوقائع المادية.. واعتقادها أنها تتصل بالألوهة والاقتراب من الجمال والخلود... حيث كانت الكاتدرائية مبنية لاستقبال التجليات حيث ينعدم الزمان.. وكانت سيرافين تقول: إن العذراء خاطبتها قائلة: سيرافين عليك أن ترسمي.. وسارعت لإطاعة الأمر وكان من عادتها الطاعة..‏

خصوصيتها..‏

سيرافين تعيش وحيدة منعزلة عن الناس في غرفة معتمة ترسم فيها.. وكان تمثال العذراء موجوداً فوق المدفأة يثبت أن الله موجود هنا أيضاً وأنه كان يدعمها وثمة شعلة من الزيت تتقد دائماً عند قدمي التمثال وهي لتغذية الإيمان والإلهام وإعطاء الشجاعة.. كانت ترسم وهي منغلقة على نفسها مازجة الأغاني والأناشيد والمخاوف والأحزان من ظلالها الداخلية ومن جراحها كانت سيرافين تصنع ظهوراً كانت تنسى في غرفتها المعيشة اليومية والعالم الخارجي ولم تكن تسمح بأن يزعجها أحد.. كانت ترسم دون أن يكون لديها ذخر أكاديمي ترسم الأشياء التي تحبها بكل بساطة تصنع خلطاتها العجيبة من الألوان تعتمد على الطبيعة.. جذور الأزهار... نباتات مائية اخترعت تقنيتها وبدأت برسم اللوحات وتحدث الناس عنها لتجذب الفضول والتعاطف.. وأيضاً النميمة والعدوانية... لقد اخترعت لنفسها قصة حب بطلها ضابط إسباني اسمه كيريوس ومع الوقت أصبح روسياً جامعاً للوحات.‏

التحول.. والقدر‏

عام 1912 جاء رجل ليقلب حياتها وهو ألماني ارستقراطي جامع للوحات وكان رجلاً أنيقاً يسكن في ساحة لافرن حيث استأجر منزلاً يقيم فيه عدة أسابيع في الصيف ليفكر في مشروع رواية أو عمل ولد بعد سيرافين بعشر سنوات وكان - على نقيضها تماماً- الأصل الاجتماعي والثقافي وطريقة العيش ومع ذلك فقد جمعتهما الأقدار في مدينة سانليس والرسم بطريقة غريبة.. وصل أود إلى فرنسا عام 1904 عام 1905 كان أول من اشترى لوحة لرسام مجهول هو بابلو بيكاسو.. وكان مع بداية الحرب 1914 يملك 16 عملاً لبيكاسو بينها 13 لوحة - أما لقاؤه مع سيرافين فكان من خلال اقتراح أحد الأعيان بإمرأة عجوز تقوم على خدمته روى أود الكثير عن لقائه بها وكيف تعرف على الجانب الهام في حياتها «الرسم» من خلال رؤية لوحة لها صدفة في بيت أحد البرجوازيين الصغار في سانليس سحر بها وسأل من رسمها فقالوا سيرافين خادمتك...‏

فاشترى اللوحات التي كانت سيرافين ستبيعها - للمرة الأولى، هناك من فهم لوحاتها.. وأصبح المحرض لها وأدخلها تاريخ الفن.. ترك أود فرنسا في فترة الحرب.. ليبدأ التحول في حياتها من جديد وتعيش حياة منزوية وفقر مدقع فقد ذهب كل شيء مع الحرب.. وبعد سنوات يقام معرض ويسمى معرض أصدقاء الفن يجمع الهواة والمحترفين واقترح رئيس البلدية عليها المشاركة ورفضت تحت اصراره شاركت بثلاث لوحات قوية جميلة الألوان.. جذبت الحضور بقوة ضوئها.. فجذبت لوحاتها النقاد الباريسيين.. وتحدثت عنها الجرائد بأنها اكتشاف رائع ومفاجئ. مقارنة مع لوحات القرون الوسطى والشرق الأقصى.. وعرف أود بأن سيرافين خادمته أصبحت رسامة فعاد ليدعمها عامي 1927 - 1930 وكانت ترسم بلا توقف، وكانت الرؤية التي تأتيها تأمرها بالرسم.. ولكن كان الحلم ينتهي بملاقاة الواقع.. لم يكن هناك ما يدهشها بل تستنزف نفسها من أجل الرسم، أصبحت غنية فاشترت كل ما تقع عيناها عليه من فضيات ومنسوجات وعاشت وسط زخرفة غير واقعية..حضرت ثوب الزفاف لتتزوج من الضابط الاسباني، اشترت منزلاً..فإلى أين كانت تمضي نحو المجد أم الجنون؟ عام 1929 حلت الضائقة الاقتصادية وتوقف أود عن دعمها لأن سوق الفن وصل لأدنى مستوياته، فطلب منها تقليص مصاريفها.. لم تفهم سيرافين، كانت تحلم بالمجد العالمي.. وأود كان الجمهور الذي لا غنى عنه بالنسبة لها، أكد لها هويتها وفنها وبتوقفه عن دعمها كرسامة ألقى بها في حالة ضياع وهكذا تدريجياً تخلت عن الرسم وتخلى عنها إلهامها.. تخلت عن المنطق، اجتاحها القلق والهذيان، وتجري من باب لباب معلنة نهاية العالم، وذهبت للمشفى لطلب الهدوء والأمان دون جدوى.. ونقلت إلى مشفى الأمراض النفسية في كلير موند وبقيت عشر سنوات بلا رقم وقالت: لا يمكن القيام بعمل فني في هذه المنشآت.. هي لا تمثل مهنتي ولا حرفيتي، عندما اقترح عليها الطبيب بعض أدوات الرسم.. لترسم في المصح.. توفيت سيرافين عام 1942، وضعت في قبر عام لم يحضر جنازتها أحد.. ليس لها قبر معروف كانت مع ذلك تريد أن تدفن في موطنها ويكتب على شاهدة قبرها هنا ترقد سيرافين بلا منافسة بانتظار انبعاثها السعيد.‏

سيرافين تلك المرأة التي تلامس روحك الكامنة هناك وراء ورقة شجر.. وراء أزهار مجنونة تكاد تحلق كروحها التي تتوق للانعتاق من أسر الظروف الصعبة، لم يكن يعنيها من العالم الخارجي سوى الألوان التي مزجتها على مزاجها هي.. وترسم عالمها هي..‏

سيرافين كانت تتماهى مع الطبيعة.. تتحدث لكل شيء فيها، تعانق جذع شجرة كما لو أنه حبيبها.. فأي سر وراء جنونها.‏

الفيلم مؤثر حقاً جسدته ببراعة الممثلة يولاند مورو فعبرت عن الشخصية بل تفاصيلها، تلمس ذلك في نظرة العيون المنكسرة الحزينة دائماً.. لم تبتسم أبداً فهي مليئة بحزن العالم أجمع ولم تقدم لها الحياة سوى نافذة واحدة، الرسم..تلك البدائية في شخصية سيرافين وفطريتها في التعامل مع الأشياء وكأن لا عاطفة تحركها سوى نحو الطبيعة، سيرافين الحافية دائماً تلتصق بالأرض بالعشب.. يصلك عبر حواسها كل ما يصلها من الطبيعة والريف الفرنسي الساحر.. سيرافين فيلم يستحق أن تشاهده أكثر من مرة.. لأنه مليء بتفاصيلنا التي نخاف أن نطلقها كالفراشات.‏

فرانسواز كلواريك حاصلة على شهادة الدكتوراه في علم الأمراض النفسية وتعمل كطبيبة نفسية سريرية ومحللة نفسية في مستشفى فيل ايغرار في باريس كما أنها رسامة تخرجت من معهد الفنون الجميلة بباريس وقدمت عدة دراسات حول نساء فنانات مثل: سيرافين - وكاميل كلوديل.. قدمت فرانسواز كلورايك مجموعة من المحاضرات حول العلاقة بين علم الآثار والتحليل النفسي وحول علم أمراض السفر في دمشق وحلب.. وأقامت العديد من المعارض في رواق الفنون الجميلة وفي باريس وغاليري أسد في حلب ألفت ستة كتب: (البيمارستانات - أماكن الجنون والحكمة - سورية - رحلة في الذات - الخان - زمن القناصلة - تائهة - صدرت عن دار لامارتان وكتاب سيرافين الذي نشرته دار فيبوس).‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية