|
دين ودنيا وَفِكْرُ الأمّةِ هو آليّةُ تَدبُّرِها وتفاعُلِها مع المعارِفِ، ومنظارُها إلى ألوانِ المعرِفَةِ بشتّى أشكالِها، وبالتالي هو المنهجُ الناظِمُ لِطُرقِ التعقُّلِ والإدراكِ في استنباطِ المعرفةِ، وهو معيارُ الأمّةِ في تفاعُلها مع هذه المعارف.. .. ولذلك فَفِكْرُ الأمّةِ هو – في الحقيقةِ – منظومَتُها الثقافيّةُ، والقوّةُ المُوَجِّهَةُ لتفاعُلِ أبنائها معَ المعارِف.. فالحديثُ عن المنظومَةِ الثقافيّةِ العربيّةِ هو – في النهاية – حديثٌ عن الفِكْرِ العربيِّ وأُسُسِهِ ومقوِّماتِه.. وحتى نبحثَ في المنظومةِ الثقافيّةِ العربيّةِ بحثاً هادفاً مُفيداً، لابُدَّ من الوقوفِ على أهمِّ الأسُسِ التي بُنيَ عليها الفِكْرُ العربيُّ عَبْرَ التاريخ، وعلى إيجابيّاتِ الحركةِ التاريخيّةِ الفكريّةِ العربيّةِ، وعلى سلبيّاتِها، للاستفادةِ في تقييمِ الواقِعِ الثقافيِّ العربيِّ، ولاكتشافِ قوانين الحركةِ التاريخيّةِ الخاصَّةِ بهذهِ الأمّةِ.. .. قبلَ نزولِ القرآنِ الكريمِ، كان الشعرُ العربيُّ المادّةَ الأولى للثقافةِ العربيّةِ، والبحرَ الأوسعَ الذي تُبحرُ به مراكبُ التواصلِ الثقافيِّ بين أبناءِ الأمّةِ.. ولكنْ.. بعدَ نزولِ القرآنِ الكريمِ وتراجُعِ المدِّ الشعريِّ، مقارنةً مع مرحلةِ ما قبلَ نزولِ القرآنِ الكريم، بدأتْ مرحلةٌ ثقافيّةٌ جديدةٌ، تمَّ فيها فتحُ آفاقٍ ثقافيّةٍ لمْ تكنْ معلومةً قبلَ نزولِ القرآنِ الكريم.. فما يحملُهُ القرآنُ الكريمُ من تبيانٍ للأشياءِ في هذا الكون، ابتداءً بنظريّةِ تشكّلِ الكونِ، وانتهاءً ببعضِ جزئيّات السلوكِ العامِّ، وَضَعَ الأُمّةَ في ساحةٍ ثقافيّةٍ جديدةٍ، ناظمُها الثقافيُّ الأوّلُ، ومعيارُها اللغويُّ الأوّلُ، هو القرآنُ الكريم ذاتُهُ.. وفي العصرِ العبّاسيِّ بدأتْ مرحلةٌ ثقافيّةٌ، امتزجتْ فيها بعضُ ألوانِ الثقافاتِ الأخرى مع اللونِ الأساسيِّ للثقافةِ العربيّةِ، فتمَّ تفاعلٌ ثقافيٌّ أدّى إلى ترجمةِ بعضِ فلسفاتِ الأممِ الأخرى وعلومِها.. وغدتْ – في تلك المرحلةِ – ساحةُ الثقافةِ العربيّةِ تربةً خِصْبَةً لإنباتِ فلسفةٍ متميّزةٍ خاصّةٍ بهذه الأمّةِ، وبحراً كبيراً يغوصُ فيه كلُّ من تفاعلَ مع الثقافةِ العربيّةِ.. ولذلك نرى أنّ أكثرَ فلاسفةِ هذه الأمّةِ وجامعي رواياتِها، تعلّموا من الثقافةِ العربيّةِ، وعملوا بها، وطوّروها، وساهموا في وضعِ أهمِّ أُسُسِها، مع أنّهم ليسوا عَرَباً بالمفهومِ الجَغرافيِّ... فالغزاليُّ، والفارابيُّ، وابنُ سينا، وابنُ المقفّعِ، والبخاريُّ، ومسلمٌ، وغيرُهم، كانوا عَرَباً في ثقافتِهم، مع أنّهم ليسوا عرباً في أصلِهِم القوميِّ.. فالمنظومةُ الثقافيّةُ العربيّةُ كواقعٍ متحقِّقٍ في التاريخ، صاغَها أبناءُ الأمّةِ عَبْرَ التاريخِ، وعَبْرَ تفاعُلِهِم مع الأحداثِ الداخليّةِ والخارجيّةِ، ومن جهةٍ أُخرى فإنّ هذه المنظومةَ أثّرتْ في الهُويّةِ الفكريّةِ لأبناءِ هذه الأمّةِ... وبالتالي فإنّ الحديثَ عن فِكرِ الأمّةِ، وواقِعِها التاريخي، هو ذاتُهُ الحديثُ عن نتيجةِ فِعْلِ المنظومةِ الثقافيّةِ العربيّةِ في أبناءِ هذه الأمّةِ، وعن نتيجةِ فعلِ أبناءِ هذه الأمّةِ في صَوغِ هُويةِ المنظومةِ الثقافيّةِ العربيّة.. فهناك إيجابيّاتٌ ساهمتْ في الحفاظِ على الهويّةِ الثقافيّةِ العربيّةِ، وهناك سلبيّاتٌ حدّتْ من تطوّرِ هذه المنظومةِ الثقافيّةِ.. هذا ما نلمَسُهُ من الحركةِ التاريخيّةِ لهذه الأمّةِ عَبْرَ تاريخِها الطويل.. ويمكنُنَا أنْ نُلخِّصَ أهمَّ الإيجابيّاتِ التي ساهمتْ في الحفاظِ على الهويّةِ الثقافيّةِ العربيّةِ بالنقاطِ التاليةِ : 1- التمسّكُ باللغةِ العربيّةِ كوعاءٍ للثقافةِ العربيّةِ، وكقاسمٍ مُشتركٍ بين جميعِ أفرادِ هذه الأمّةِ على مختلفِ أديانِهم ومذاهبِهم.. وفي هذا السياقِ لا بُدَّ من ذِكرِ الدورِ الكبيرِ الذي قامَ بهِ القرآنُ الكريمُ في ترسيخِ هذه الوِحدةِ اللغويّةِ، كمعيارٍ تُقَوَّمُ عليه اللغةُ عَبْرَ التاريخ.. ولذلك كان القرآن الكريم عزَّ الأمّة العربيّة ورافع شأنها وحامي هُويّتها، وسوف تُسأل الأمّة عن تمسّكها به، وإيصاله إلى البشرية جمعاء.. ولا بُدَّ هنا من ذِكرِ دورِ الشعرِ العربيِّ في المهمّةِ ذاتِها، حيث كان الشعرُ العربيُّ أداةً هامّةً من أدوات التواصل الفكري والثقافي بين أبناء الأُمّة.. 2- وِحدةُ الشعورِ القوميِّ لجميعِ أبناءِ هذه الأمّةِ على مختلفِ أديانِهم ومذاهبِهِم، وَوِحدةُ الثوابتِ والأهدافِ، حيثُ تتجلّى هذه الوِحدةُ بأسمى صُورِها حينما تتعرّضُ الأمّةُ إلى خَطَرٍ خارجيٍّ. 3- قامَ القرآنُ الكريمُ بالدرجةِ الأولى، كونه الحامل الروحي لأبناء الأمّة، والشعرُ العربيُّ بالدرجةِ الثانيةِ، بالحفاظِ على الهُويّةِ الثقافيّةِ لهذه الأمّةِ عَبْرَ تاريخِها. ويُمكِنُنَا أنْ نُلخِّصَ أهمَّ السلبيّاتِ التي تَحُدُّ من تطوّرِ المنظومةِ الثقافيّةِ العربيّةِ بالنقاطِ التاليةِ: 1- تبريرُ الأخطاءِ الأيديولوجيّةِ للمنظوماتِ الفِكريّةِ تحت غطاءِ المصلحةِ العليا للأمّةِ، وتحت غطاء قانون سدّ الذرائع، وتحت شعار المصلحة العليا للأمة 2- المبالغةُ في إيجابيّاتِ الأنا، وفي سلبيّاتِ الطرفِ الآخرِ، ممّا يخلُقُ إغراقاً في الذاتيّةِ يُصبحُ – مع الزمنِ - حاجزاً يمنعُنا من رؤيةِ سلبيّاتِ الذاتِ وإيجابيّاتِ الطرفِ الآخرِ.. وبالتالي تصبح ( الأنا ) معياراً للحق، ويصبح البحث عن التغيير في ساحة تغيير النواميس الكونية، بدلاً من تغيير الأخطاء التي تتصف بها الذات.. 3- اتّهامُ الرأيِ الآخرِ بالعدوِّ للأمّةِ ولثقافتِها، فقط لأنّه الرأيُ الآخرُ.. سواءٌ كان ذلك في الساحةِ الدينيّة، أم الاجتماعيّةِ، أم السياسيّةِ، أم.....، وبالتالي إلغاءُ الآخرِ، وتقزيمُه، وعدمُ النَظَرِ إلى رأيِهِ بتجرّدٍ، مقابلَ تضخيمِ الأنا.. 4- تصويرُ التاريخِ بماضيه وحاضِرِهِ تصويراً مُبالغاً فيه، فُتُبَرَّرُ الهزائمُ مهما كانتْ، وتُستبدَلُ بانتصاراتٍ وهميّةٍ لا علاقةَ لها بالواقعِ لا من قريبٍ ولا من بعيد.. فدائماً يتمّ البحث عن ضحية لتحميلها مسؤولية الفشل، حتى لا نعترف بأخطائنا، وبالتالي نبقى – دائماً – ندور في الحلقة المفرغة ذاتها، ونقع في الحفر ذاتها التي ما زلنا نقع فيها منذ قرون كثيرة.. 5- الطعنُ بأيِّ مُتنوِّرٍ يريدُ قراءةَ التاريخِ قراءةً مجرّدةً، واتّهامُهُ بالكفرِ والزندقةِ والتآمرِ والعداءِ للأمّةِ.. فكم من عالمٍ ومتنوِّرٍ قُتِلَ أو شُرِّدَ أو عُذِّبَ لأنّهُ طَرَحَ فِكراً يُخالِفُ الموروثَ الفكريَّ، ولو بأيِّ درجةٍ من المخالفةِ.. وبالتالي نتمثّل قول الله تعالى.. ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) ( الزخرف : 22).. ونتيجة لهذه الصفات السلبيّة نبقى دائماً خارج ساحة الاستفادة من عبر الأحداث والهزائم التي تلحق بنا، فكلُّ عبرة من الممكن استنباطها من أي حدث، وكلّ قانون تاريخي من الممكن اكتشافه، وكلّ ثمرة فكرية وثقافية من الممكن قطفها من أي مرحلة، نُحوّلها – نتيجة هذه الصفات السلبية – إلى فضلات.. هذه هي - حسبَ ما أرى - أهمُّ المؤثِّراتِ ( الإيجابيّةِ والسلبيّةِ) في أُسُسِ المنظومةِ الثقافيّةِ العربيّةِ.. والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَهُ في هذا السياقِ هو : ما هي الواجباتُ الفكريّةُ للنهوضِ بمستوى المنظومةِ الثقافيّةِ العربيّةِ، لِتُواجِهَ التحدّياتِ الثقافيّةَ والفكريّةَ الراهنةَ، وللحفاظِ على هُويّةٍ ثقافيّةٍ عربيّةٍ مستقلّة ؟.. - إنّ أوّلَ ما يجبُ الحفاظُ عليهِ هو أصالةُ اللغةِ، وذلك بجعلِ اللغةِ الفُصْحَى معياراً لكتاباتِنا الرسميّةِ وغيرِ الرسميّةِ، كونَها القاسمَ المشتركَ بين جميعِ شعوبِ الأمّةِ، وكونَ اللهجاتِ المحليّةِ والإقليميّةِ عواملَ تفرقةٍ تؤدّي - مع الزمن – إلى تكريسِ الإقليميّةِ، إذا ما اُعتُمِدَتْ بشكلٍ رسميٍّ.. - علينا أن نُدرِكَ حقيقةً مُهمّةً يجهلُها – للأسفِ – الكثيرون من أبناءِ هذه الأمّةِ ومفكّريها، هي أنَّ اللغةَ العربيّةَ (المفرداتِ القرآنيّةَ) أوّلُ لغةٍ للبشريّةِ، وهي اللغةُ التي نزلتْ مع آدمَ عليه السلام من السماءِ.. وبالتالي فاللغةُ العربيّةُ هي أصلُ كلِّ اللغاتِ على وجهِ الأرضِ، وهذا يُبيّنُ فِطريةَ لغتِنا العربيّةِ، وأصالتَها.. - علينا أن نُدرِكَ أنَّ الامتدادَ الجَغرافيَّ لجسدِ هذه الأمّةِ، يتكاملُ مع امتدادِها الثقافيِّ والفِكريِّ، وبالتالي فالصراعُ مع الكيانِ الصُّهيونيِّ الذي زُرِعَ في قلبِ الأمّةِ هو صراعُ وجودٍ لا صراعَ حدود، فقد أُوجِدَ هذا الكيانُ للقضاءِ على هُويّتِنا وثقافتِنا، فضلاً عن اغتصابِ أرضِنا وتدنيسِ مقدّساتِنا.. - يجبُ التأكيدُ على الرأيِ الآخرِ والفِكْرِ الآخرِ كضرورةٍ لتوازنِ الفِكْرِ ولتقييمِ العَمَلِ ولفهمِ الذاتِ والآخرِ على حدٍ سواء..فلا بُدَّ من قبولِ الرأيِ الآخرِ وعدمِ اتّهامِهِ بالكُفْرِ والزندقةِ والتآمرِ، حتى لا تُقتَلَ الحقيقةُ في روحِنا. - أن نُدْرِكَ أنَّ دوائرَ المواطنةِ والقوميّةِ والدينيّةِ لا تتعارضُ فيما بينها، بل تتكاملُ في صُنْعِ ثقافةِ هذه الأمّةِ وفِكْرِها. - التخلّي عن العصبيّاتِ السلبيّةِ على مختلفِ الصعدِ الدينيّةِ، والمذهبيّةِ، والفِكريّةِ، والسياسيّةِ....... لأنّها تؤدّي إلى القضاءِ على تطوّرِ المنظومةِ الثقافيّةِ لهذه الأمّةِ، وإلى قتلِ فِكرِها.. - لا بُدَّ من الانفتاحِ على الثقافاتِ الأخرى، وصهرِها في بوتقةِ الثقافةِ العربيّةِ، وعدمِ التقليدِ الأعمى للأيدلوجيّاتِ الفِكريّةِ والثقافيّةِ والسياسيّةِ الغريبةِ عن روحِ هذه الأمّة.. .. إنّ رسمَ الصورةِ السليمةِ للمنظومةِ الثقافيّةِ لهذه الأمّةِ، في قلبِ كلِّ فردٍ من أبنائها، والنهوضَ بفكرِ الأمّةِ وثقافتِها، لِتُنْتِجَ الحضارةَ وتَصْنَعَ التاريخَ، لا يكونُ إلاّ بحريّةٍ فِكريّةٍ ثقافيّةٍ هدفُها الحقُّ أوّلاً وآخِراً.. فلا يُمكنُ لوحدةِ هذه الأمّةِ أنْ تتحقّقَ إلاّ بِوِحدةِ فِكرِ أبنائها وثقافتِهم، ولا يُمكن لفِكرِ أبنائها أنْ يتوحَّدَ إلاّ على أرضِ الحُريّةِ وفي مُناخِ الصدقِ والعدالةِ، ولا يمكننا أنْ نَدْخُلَ التاريخَ إلاّ إذا أنتجنا الفِكرَ وَصَنَعْنَا الحضارَةَ.. |
|