|
معاً على الطريق وأفتح عيني وأغمضها على الجراح والمآسي والكثير مما يصيبنا في هذا الوطن الكبير.. لكنني إذ أحاول الخروج من المشفى وغزة لاتزال في قلبي أشعر أن البرج ينهار فوق رأسي.. وأن أبراجا كثيرة من الكلمات والشعارات تنفجر أمامي.. فها هي سيارة الإسعاف تنقل مصابين ومجروحين من غزة.. لا أستطيع أن أميز منهم إلا ذلك الطفل بلا ساقين.. ساقان مبتورتان.. ولا دماء ولا ضمادات.. وإنما فراغ بين الجذع والقامة المنتصبة وبين الأرض الثابتة.. الأرض العربية.. أما النظرة فكانت تقطر بمعان كثيرة ليس أولها المرارة والألم والحزن ولا آخرها الذهول والصمود والاستسلام لقدر الله. وأضع يدي على قلبي المتعب وأنسحب.. لا بل أدخل في دخان أسود يتفجر بالدم والنار والخراب والدمار..وتمتزج فيه الأصوات مع الدعاء والصلوات..ويا لعذابي إذ أدخل في موجة كهذه إلا أنه إلى جانب السحب السوداء تلتمع من بعيد سحابات بيضاء..ليست الأمل ولا برد الثلج ولا شمس الفجر بل هي القنابل الفوسفورية التي دمرت ما دمرت ليس في البناء والعمران بل في الأحشاء والأطراف من الإنسان. وإذ ارجع إلى حيث أقطن تقابلني شروق ابنة الجيران بكل ما فيها من إشراق وشباب وهي التي تدرس في السنة الأخيرة الأدب العبري في جامعة عين شمس, وتضطرب لرؤيتي محطمة منهارة لكنني أرى فيها زهرة بيضاء تتفتح حتى تملأ الأفق كله وهي تقول لي: لابد أن أحدثك عما أترجمه عن العبرية, ليس من الأدب والفن فقط بل من الصحافة أيضا, إنهم يعرفوننا ولا نعرفهم.. إنهم يتابعون كل ما يصدر عنا ويترجمونه وكأنهم يترجموننا نحن. ونجلس معاً لوقت طويل وقد هدأت نفسي عن نفسي فتسرع الشابة لتأتيني بأوراقها التي تترجمها عن اللغة العبرية, وهي في أوج حماسها في أنها يجب أن تعرف عدوها وأن يتعرف جيلها كله على ما يصدر من هذا البلد المجاور الذي بين الأسود والأبيض.. لكن شروق تأمل بالمستقبل, وتعبر عن جيل كامل من الشباب العربي الذي يتجاوز بأحلامه وآماله الأسود والرمادي ليصل إلى الأبيض والزمن العربي. ماذا أقول عن تلك المشاعر والأفكار المتضاربة التي كانت تأخذنا جميعا بين الأصوات والصور بل بين ما يدور على ساحاتنا من كل خبر؟.. ماذا أقول عن الأحمر الناري الذي تدفق أنهاراً فوق التراب العربي والذي تغلغل في شرايين من يراقبون قبل أن يتغلغل في الأرض التي عنها ينزفون؟.. ماذا أقول عن شهادات الأطفال التي تتوالى أمامنا فوق الشاشات وكأن كلا منهم تاريخا مستقبليا ينذر بالرعود كما يأمل بالسعادة والورود. إنه الفلسطيني إذن.. والغزاوي الذي يسطر بدمائه وتضحياته كل كلمة أو حرف في السفر العربي ويشمخ صاعدا في السماء نحو الغيمة البيضاء لا السوداء. وها هو العالم كله يشهد كما نحن نشهد بفظاعة المشهد وبقسوته وعنفه ولا إنسانيته.. وها هي الأقمار تنقل الأخبار.. وها هو العالم كله يتحفز لا لمعرفة الأسرار التي أصبحت مكشوفة بل ليعلن أن إسرائيل دولة عنصرية إن لم تكن فاقت النازية فهي نازية أخرى بأساليب أخرى. وأعود إلى شروق فأجدها لا تطوي أوراقها بل تنشرها بإصرار وعزم على أن تتوجه إلى نقل ما يمكن نقله لا إلى أبناء جيلها وبناته فقط بل لترصده إلى الأجيال القادمة التي تريد لها أن تكون صامدة بالعلم والتقدم لا بالشعارات والكلمات. |
|