|
ملحق ثقافي جسده الذي كان البارحة يتحرك كحصان جموح , بات اليوم لايقوى على التماسك , لا يقوى على الوقوف .. هده مرض مفاجىء طرحه كورقة خريفية عصفت بها ريح عاتية .. ملامح وجهه توحي لكل من يراه بأن هناك مرضاً عضالاً يفترس الحياة داخله , يسرق الراحة , يزرع الألم .. الجبين متجعد , العينان متهدلتا الأجفان , شبه مغمضتين يلفهما ضباب كثيف , الفم ينفغر عن تكشيرة توحي بأن هناك شيئاً ما في داخله يتقطع , ينفجر , يتناثر .. الضعف الإنساني يتمركز في هذا الجسد , يشده نحو الأسفل فلا يجد ما يقاومه , ينهد إلى كرسي في غرفة الإنتظار .. وعبر نظراته الضبابية يرى باب الطبيب مغلقاً , يسأل نفسه: - متى سيفتح باب الرحمة هذا ؟.. متى ؟..آلام فظيعة تقطع أحشائي .. صداع يكاد يفجر رأسي , أحس وكأن كل عضو من أعضائي سيتركني ويهاجر بمفرده بعيداً عني .. ما أحوجني إليك الآن .. آه لو أنك بجانبي يا عائشة لتري ما حل بزوجك سراج , لقد نزل بي المرض فكبلني ورمى بي إلى الآلام تتقاسمني كغنيمة بعد مجاعة عظيمة , وأنا الذي لا أعرف وهناً في حياتي أو إرتفاعاً في درجة حرارتي .. آه أليست آلام الغربة كافيه ؟.. ما أحوجني إليك يا زوجتي !.. ولكن كيف بك وأنت ترين سراجك وهو يخبو , بل ويكاد ينطفىء , لابد أن عينيك ستذرفان دمعاً مدراراً , لم أشاهده ولا حتى يوم وداعك لي .. اجتمعت الآلام في جسدي وكأنها اختارته المقر الدائم فكان من قراراتها حرقي بنار الغربة وإلقائي في سعير المرض .. عذاب الغربة وعذاب الجسم في آن واحد , فهل أستطيع أن أصمد ؟.. وضع يده على رأسه يتحسسه , هل مازال في مكانه ؟.. أم أنه تفجر وتحول إلى شظايا ؟.. أي خلل هذا الذي جعل جسدي لا يستطيع حمل هذا الرأس ؟.. وعنقي هذا الذي التوى كعنق خروف معد للذبح .. أين ذهب العزم ؟.. أين ذهبت القوة ؟.. أنا ضعيف وضعيف جداً , آه ما أضعف الإنسان !.. امرأة تتهادى كالطاووس , تنقر الأرض بحذائها نقراً كأنها تمشي على نغمة موسيقية , تنقر باب الطبيب , تدخل .. دردشة غير مفهومة , ضحكات عالية .. سراج متكور على كرسيه في غرفة الانتظار ككرة يكاد يختلط بعضه ببعض .. الباب ما زال موصداً , الضحكات تخترق سمعه , يكاد ينفجر من الغيظ , لكن لاحول له ولا قوة .. يحمله اللاشعور إلى بلده بنغلادش , يوم كان عرسه وكانت الضحكات , راودته فكرة جالت في مخه الصاخب : _ لعل الفقراء أمثالي لايضحكون إلا في يوم زفافهم ، وبعدها يشقون دائما» ويبكون كثيراً , لقد وعدتها أن أؤمن لها عشاً زوجياً , وها قد سافرت إلى دولة نفطية غنية فماذا جنيت ؟..
شهران كاملان بلا عمل !.. وبعدها عندما وجدت العمل , ارتميت ثاني يوم منه صريعاً كشاة تعاني سكرات الموت .. لاتؤاخذيني يا عائشة قد لا أستطيع أن أفي بوعدي لك , لن أستطيع أن أحمل لك أثواباً مزركشة , لن أستطيع أن أحمل لعباً لأطفالنا .. كم كنت أتمنى ذلك ،كم كنت أحب أن أرى الفرحة في عيونكم ، أن أمسح الشقاء عن حياتكم ولكن .. كم أنا ضعيف !.. ما أسهل أن نحلم !.. أن نحلم أحلاماً كبيرة كفقرنا الكبير .. ولكن ما أصعب التنفيذ والواقع !.. الأحلام وهم .. سراب لاينال .. هل قدِّر لنا أن نحلم فقط ؟.. هل قدر لنا أن ننسج ثوب حياتنا من خيوط الأمل ؟.. آه ما أوهى هذا الخيط الذي يربطنا ويشدنا إلى الحياة !.. عبر صوت الطواحين التي تدوي في رأسه ، تتناهى إلى سمعه كلمات بعض المنتظرين : - مسكين باد عليه أنه مريض جداً .. - فليأخذ دورنا ، وليدخل مباشرة إلى الطبيب .. - لا بارك الله بالمرض .. الغرفة تدور به ، يحس وكأن كرسيه يكاد يهرب من تحته ، باب الطبيب ينوس وكأنه مثبت من منتصفه , عبثاً يحاول أن يحملق به كي يتوقف عن النوسان , وينفتح ليدخل إلى الطبيب , ويلقي بآلامه وأوجاعه بين يديه ليخلصه منها .. الحذاء النسائي بكعبه المدبب , ينقرالأرض خارجا»من العيادة , والطاووس يتمايل فوقه ,كل العيون تنشد إليه إلا عيني سراج فهما مشدودتان إلى الباب الذي انفتح أخيراً .. باب الرحمة , باب الجنة أشرع .. سأغتسل بماء الكوثر , سيصبح جسدي شفافاً خالياً من كل الأمراض , لم أدخل في حياتي إلى طبيب قبل الآن , لا أعرف أشكال الأطباء ,كيف هم ؟.. هل هم أناس عاديون مثلنا ؟.. لا بد أنهم كالملائكة .. يستلون المرض من الجسم بيد خفية , ويرمون بالآلام بعيداً .. بعيداً .. حاول القيام فلم تسعفه قواه , سندته أيدي وأدخل .. من خلال الضباب الذي غشَّى عينيه رأى رجلاً أنيقاً يجلس إلى مكتب فخم , يحمل عينين ملولتين , قد سئمتا النظر إلى الوجوه , رمقه بطرف عينه .. سأله : - مِمَّ تشكو ؟.. لم تسعفه الحروف في أن يتجمّع بعضها مع بعض لتنطق كلمات تعبر عما يتفجر بداخله من آلام .. رفع يده وكأنه يحمل بها ثقلاً كبيراً , مشيراً إلى رأسه وصدره وبطنه .. وأسدلها وكأنه أراد أن يشير إلى أن الألم ممتد حتى رؤوس أنامل قدميه .. الطبيب ممتلىء صحة وعافية , يجلس على كرسي مريح وراء مكتبه .. سراج تسنده الأيدي واقفاً تجاهه على قدميه , وكرسي فارغ بجانبه ولم يشر إليه بالجلوس .. حمل الطبيب ميزان الحرارة ودفعه لسراج ليضعه تحت لسانه .. فلم يعرف سراج ماذا يمكن أن يفعل بتلك القطعة الزجاجية الناعمة الملساء الصغيرة التي لم يرها من قبل , فوقف واجماً .. الطبيب بنَزَقٍ : ضعه في فمك !.. أوه ليس كذلك .. تحت لسانك !.. مد لسانه خارج فمه , ووضع الميزان تحته فبدا منظره كلسان ضفدع قد أنهكته كثرة الصيد , فامتد خارج الفم وارتخى .. صاح الطبيب ووجهه تعلوه تكشيرة مقززة : - ضعه في فمك !.. أين تعيش أنت ؟.. ألا تعرف كيف تضع ميزان الحرارة في فمك ؟.. سراج يبلع ريقه بصعوبة , القطعة الزجاجية تحت لسانه , قدماه تحملانه بقرف ، والأيدي مازالت تسنده ، الكرسي الفارغ يضرع إليه أن يريح نفسه عليه لكن لم يؤذن له .. جرس الهاتف يرن بنَزَقٍ ، يد الطبيب تمتد إليه بتثاقل.. - نعم .. أهلاً .. أهلاً ،كيف أحوالكم ؟.. منذ زمن طويل لم نسمع هذا الصوت الجميل .. أجل !.. أجل سآتي لزيارتكم .. وهل نستطيع أن نستغني ؟!.. سراج يسبح في بحر آلامه , تيار كهربائي يتلَوْلَبُ من رأسه حتى قدميه .. جسده يختلج , دماؤه تهرب إلى المجهول , يتماسك كي لا يتهدم , وفمه ما زال مطبقاً على القطعة الزجاجية الملساء .. صوت الطبيب يأتيه وكأنه آت من عالم غير عالمه : - لم تخبريني ما هي أخبار المزرعة عندكم ؟.. - .... - جميل جداً .. سأعمل حسابي أن أقضي جزءاً من إجازتي عندكم .. - .... - بالطبع الأولاد سيستمتعون بمناظرها الخلابة.. - .... - أجل سآتي إليكم بسيارتي .. - .... - لا , لا إنها موديل هذه السنة .. لو كنت بجانبي يا عائشة , لأرحتني من أن أشرح لك ظروفي وحالتي , لأرحتني من أن أقول لك بأن لقمتي أكاد لا أحصلها إلا بشق النفس .. آه .. وهذا المرض اللعين الذي انصب على جسدي كسيل عارم , يخنق الحياة داخلي , يلتهمني دفعة واحدة , ليتني يا عائشة أعرف الكتابة , لأكتب لك بأن تهتمي بنفسك وبالأولاد .. ليتك قريبة مني .. ليتني قريب منك , بل ليت هذا الطبيب الآن يترك سماعة الهاتف من يده وينظر إلي نظرة واحدة , أكاد أنتهي .. أموت .. ما باله غير مبال بي ؟.. آه .. وهذه القطعة الزجاجية التي وضعها في فمي لم تفعل شيئاً حتى الآن .. - الربيع عندكم جميل جداً .. - .... - هذا وعد لا محالة .. أتعرفين ؟.. لن ولم أنس طعم عصير المنجا التي شربتها عندكم أبداً .. امتدت يد الطبيب إلى فم سراج , سحبت القطعة الزجاجية , نظرت إليها العينان الملولتان , رجتها اليد التي سحبتها وألقتها في سائل معقم .. وبدأت اليد تكتب على ورقة بيضاء اسمي دواءين , وقذفتها إلى سراج , والفم ما زال يتكلم على الهاتف .. أُخرج سراج من غرفة الهاتف , فأحس أن شيئاً ما بداخله قد تحطم , ولم يعد يحس شيئاً , فحملته الأيدي وسارعت به لتجلب له الدواء .. |
|