تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


تشويه أدب سيلين بالعربية

ملحق ثقافي
25/8/2009
غازي أبوعقل

في الأول من تموز يوليو -2009- يكون قد مر على رحيل الأديب الفرنسي لوي فردينان ديتوش عن دنيانا ثمان وأربعون سنة.

وهو المولود في السابع والعشرين من أيار مايو 1894 والمتوفى في 1961، والأكثر شهرة من أن يُعرَّف، إذ كان ينشر أعماله باسم جدته لأمه سيلين...‏

قيل عنه أنه عنصري كاره لليهود )لاسامي( مما حماه من هرولة التراجمة العرب إلى نقل إبداعه إلى لغة الضاد، لأن الناشرين من بني قحطان ينصاعون فيما يترجمون إلى اعتبارات ليست غامضة دائماً. استمرت الحال على هذا المنوال إلى دخولنا في الألفية الثالثة بعد الميلاد، عندما اخترق مترجم من مصر العربية هذا الحظر على كاره اليهود فنقل إلى العربية روايةَ سيلين الأولى المنشورة في 1932، وصدرت الترجمة عن دار شرقيات في 2005. ولما كانت المصائب لا تأتي فرادى، قامت الهيئة العامة السورية للكتاب بنشر الرواية نفسها في دمشق سنة 2007 بقلم مترجم آخر.‏

لن أتوقف عند رواية سيلين الأولى «رحلة إلى آخر الليل» ولا عند الزلزال الأدبي الذي أحدثه أسلوبها في الرواية الغربية بعد الحرب العالمية الأولى، لأنني أحصر بحثي هذا في مسألة الترجمة فحسب، ترجمة هذا العمل إلى العربية بعد نحو ثلاثة أرباع القرن على نشره.‏

كنت قرأت النص الفرنسي في الطبعة الصادرة في صيف 1984 . ولما ظهرت الترجمتان العربيتان راودتني فكرة مضاهاة النصوص الثلاثة. ولما كان النص الفرنسي أكثر من ستمئة صفحة، كان لابد من اللجوء إلى طريقة السبر الجزئي للوقوف على سوية كل ترجمة.‏

لولا الحياء لملأتُ عشرات الصفحات بطرائف ما جاء في تعريب «رحلة» سيلين. سأكتفي هنا بعينات عشوائية اخترتها عند اللحظة التي يخرج فيها قطارا المترجمَين عن الخط، أي عندما يخونهما التوفيق في فهم ما أراد الروائي الفرنسي الشهير قوله متوخياً الإيجاز.‏

في الصفحة الأولى من الفصل الثاني والعشرين من «الرحلة» إلى عجائب الترجمة العربية، وقعت على هذه الطرفة...‏

يحكي الراوي الذي أصبح طبيباً في حي من أحياء باريس، حكايةَ فتاة من مرضاه الذين كان يعودهم في بيوتهم، في الخامسة والعشرين من عمرها ذات جسد بديع التكوين ورغبة في المضاجعة لا تخمد. لا تمارس هذه الهواية إلا مع الرجال المتزوجين من ذوي الشأن في الحي وهي غير متزوجة. وكانت وتيرة ممارستها هذه الهواية تجعلها تحبل باستمرار، فتلجأ إلى قابلة في الحي لتجهضها قبل نهاية الشهر الثالث من حملها. كان الراوي –الطبيب- يحدث نفسه (وقارئه معاً) وهو في طريقه إلى منزل الفتاة التي كانت تعاني من مضاعفات الإجهاض الثالث، ويقول: «إن أصدقاءها المتزوجين لا يرغبون بالانفصال عن زوجاتهم من أجل براعتها في المضاجعة، لأن هذه البراعة تشكّل دعامةَ هنائهم واستقرار حياتهم الزوجية» لكنه يتدارك بشأن الفتاة اللعوب ويضيف:»عندما تكون الفتاة ذات مزاج متقد ولا يوجد بتصرفها زوج لتخدعه، يجب عليها ألا تستسهل ممارسة هذه الألعاب دائماً ؟...‏

كيف انتقلت هذه النصيحة «السيلينية» إلى العربيات من ذوات المزاج اللواتي قد يقرأن «الرحلة»؟ المزاجيات السوريات سيقرأن هذه الكلمات: (حينما كان يشتد شبقها ولا تجد زوجاً من أولئك الأزواج تحت يدها فإنها كانت تكف عن المجون)... ما أبعد هذا المعنى عن دقة سيلين وسخريته بخاصة أنها كانت لا تكف عن المجون على نقيض ما فهم المترجم، فهي من دون زوج لا من دون «الأزواج الآخرين».‏

وسيكون على المزاجيات المصريات الاكتفاء بهذا السطر البليغ: (فمن هي مثلها «صاحبة مزاج» وعَزبة، أي بلا ديوث تنسب إليه الذي يحبل به فيها، لا وقت عندها للعبث)...‏

المدهش في مُترجِمَي رحلة سيلين إلى العربية، هذا التناوب على الخطأ والصواب بينهما. فتارة وأنت تضاهي الترجمتين ببعضهما وبالنص الفرنسي، تجد أحدهما قد أصاب في نقل المعنى في حين أخطأ الآخر، وبعد قليل يتبادلان الدور، مما حيرني في فهم كيفية «إدراكهما» لحساسية لغة سيلين، واهتمامه بالتفاصيل..فكيف تُفسر لماذا كتب أحدهما أن رحلة الراوي لصعود النهر في المستعمَرة الأفريقية الاستوائية قد استغرقت عشرة أيام، بينما جعلها الثاني ثمانية؟‏

لابد لي من التنويه بكون الترجمة السورية مكتوبة بلغة عربية مقبولة، بصرف النظر عن كونها تترجم نصاً أدبياً رفيع السوية يمتاز بأسلوب فريد فشلتْ غالباً في تجسيده..أما «عربية» الترجمة المصرية فهي فعلاً ركيكة، مع أنها استفادت من مراجعة أ.د (أستاذ دكتور أو دكتورة ربما) في حين لم يراجع الترجمة السورية أحد.‏

ذكرتني الترجمة المصرية بما كان يرسمه صاروخان من كاريكاتير على أغلفة «آخر ساعة» في ثلاثينات القرن العشرين أيام كان يرأس تحريرها محمد التابعي، وكنت أتأملها في مكتبة والدي بعد أن تعلمت القراءة. الفارق أن رسوم صاروخان كانت «بليغة»...‏

أنا في حيرة بين عشرات من أخطاء المترجمَيْن وبين الإيجاز، وكي لا ينتاب القارئ ظن حسن بالترجمتين لا بد من التنويه بقليل من الأمثلة عن فهم المفردات على نقيض معناها، لا عن فهم الأفكار والمجاز وغيرهما من ركائز أي عمل روائي. وهذه الأمثلة كثيرة في الترجمة السورية لسبب لا أعرفه ومنها:‏

يدخل الرواي –الطبيب- ذات يوم إلى منزل عائلة من صغار الكَسبة لعيادة الزوجين العجوزين، ويكتب: (عندما ندخل البيت نشم بالإضافة إلى الدخان- رائحة المرحاض واليَخنة)‏

(اليخنة طعام من اللحم والخضار أو السمك تُقطع وتُطهى في صلصة معينة يسميهاالفرنسيون راجو Ragout) جاء في الترجمة السورية: (عندما تدخل إلى البيت تصدمك على الفور روائح المراحيض والمجاري) لن نتوقف عند تحويل المفرد إلى جمع، فما هي ضرورة إقامة مراحيض في شقة يسكنها عجوزان؟ بل نتوقف عند المجاري وهي بالفرنسية إيجو Egout التي ضيعت المترجم عن تلك الوجبة الفرنسية «راجو» المعروفة فحولها إلى «كهاريز»...‏

في فصل آخر، كان الراوي يتجاذب أطراف الحديث مع صاحب الحانة الذي كان يشكو من ضآلة دخل الحانة بسبب كون أكثرية زبائنه من العمال العرب المهاجرين إلى فرنسا، لأنهم لا يشربون الخمر. ويتذكر صاحب الحانة كم كان عمله مزدهراً في بلدة أخرى شرق فرانسا، حيث وجد عمال بولنديون كثيرون في مصانع التعدين ويقول: (أولئك كانوا يشربون بخاصة مساء السبت –سحقاً- يا سلام ما أجملها تلك الأيام. كانوا ينفقون كل ما في جيوبهم، ذلك كان يُسمى شغلاً، أجورهم كلها كانت تطير..) نقل المترجم السوري القول على هذا النحو: (وها إن السبت مرَّ على الحانة...خراء..كان هناك عمل كثير!..البلاد بكاملها في أزمة).لن نسأله لماذا أساء فهم مفردة Merde فكتبها خراء لأنها في هذا السياق لا تأتي بهذا المعنى، بل نسأله لماذا اختلط عليه أمر الزمن فلم يفطن إلى كون صاحب الحانة يتذكر ازدهار حانته الأولى لأن البولنديين يشربون، ونسأله من أين جاء بهذه الجملة: كان هناك عمل كثير! البلاد بكاملها في أزمة؟ كيف يكون العمل كثيراً وتكون البلاد في أزمة؟ السبب بسيط لأنه ضاع بين مفردتين، فصاحب الحانة قال: كان البولنديون ينفقون «أجرهم» La paie بالفرنسية الدارجة، ولايورطون «البلاد» Le Pays في أزمة، وشتان ما بين المترجم والأصل...وإذا كنا لا نتجشم عناء فهم المفردات لأننا على عجلة من أمرنا، من أجل تدارك السنوات الضائعة منذ صدور «رحلة» سيلين قبل عشرات السنين.‏

لن أقاوم رغبتي في التنويه بهذه «الهفوة» اللطيفة التي جاءت في سياق الترجمة السورية. كان الراوي يحكي عن عودته إلى الدراسة الجامعية بعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي أصيب فيها بجرح بليغ. واستعمل في سياق وصفه لكيفية اجتيازه الامتحانات صيغة فرنسية مستعارة من مفردات قيادة العربات التي كانت تجرها الحيوانات. لهذه الصيغة استعمالات تختلف معانيها باختلاف السياق كما في لغات الدنيا كلها. وهي بالفرنسية A hue et a dia فإذا كنت تقود عربة «كارو» يجرها بغل مثلاً أو حصان، وأردت تغيير اتجاهه إلى اليمين تصيح به Hue (حا) وإلى اليسار تقول له Dia (دي)- هذا حسن ظن واضح بذكاء البهائم-.أما إذا كنت في سياق آخر فلا بد من أن يخرج المعنى عن مجال تغيير اتجاه البهيمة التي تجر العربة.. اختار المترجم المصري القول: (وما أن استأنفتُ دراستي حتى اجتزت الامتحانات بشق النفس). أما المترجم السوري فكتب: (وبعد أن استأنفت دراستي الجامعية اجتزت الامتحانات على طريقة «حا» و «دي» ) ...عسى أن يجرب الطلاب الذين يقرؤون سيلين بالعربية هذه الطريقة في اجتياز امتحاناتهم لعلها تعطي نتائج أفضل...‏

جدير بنا الانتقال إلى «الوقار» رغم كراهية سيلين لهذه الصفة، للتأكيد على ان ترجمة أدب سيلين من أشق الأمور على المترجمين الغربيين أنفسهم، رغم صلات القربى بين تلك اللغات.‏

وتحضرني بالمناسبة حكاية نص شهير كتبه سيلين بعد عودته من منفاه الدانماركي على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية ونشره جاليمار في 1955 تحت عنوان:» أحاديث مع الأستاذ سين»، وهو نص فريد يتناول فيه سيلين دنيا النشر وأجواء «المبدعين» على تنوع مشاربهم، نص يفيض سخرية محكمة ونفاذ رؤيا، أتمنى ألا يقع يوماً في براثن مترجم عربي _بمن فيهم انا_.‏

حدثني الصديق الدكتور مالك سلمان، أستاذ الأدب الانكليزي في كلية الآداب جامعة تشرين، وهو المهتم جدياً بأعمال سيلين، عن الترجمة الانكليزية لأحاديث سيلين مع الأستاذ سين.‏

ترجمَ النص إلى الانكليزية ستانفورد لوس Stanford Luce ونُشر في 1986 وفي 2006، كتب لوس مقدمة مهمة «للأحاديث» شارحاً فيها مصاعب ترجمة سيلين، وأقدمَ انطلاقاً من شعوره الجدي بالمسؤولية، ومن احترامه لنفسه ولقرائه، على نشر كل صفحة من النص الانكليزي ومعها الصفحة التي تقابلها من الأصل الفرنسي، ورفد الترجمة بتسعين ملاحظة ملأت عدة صفحات في نهاية الكتاب لتوضيح خيارات المترجم وغوامض النص الفرنسي. واختار الدكتور مالك من الصفحة الثالثة والعشرين من المقدمة التي كتبها لوس هذه الملاحظة المهمة جداً حول صعوبات ترجمة أسلوب سيلين، أستأذنه في نقل ترجمته لها مع هذا الحديث عن الترجمتين العربيتين لنص مؤسس في أدب سيلين، هو «الرحلة»..:‏

(تعود هذه الصعوبات إلى قدرة سيلين الفريدة على مزج الهذيان والواقع. وإلى معجزة ربط الكوميديا والبؤس، المبالغة والواقع، دون توقف، عبر الانفعال، حيث يتم دفع القارئ نحو الوجهة المنشودة. بالإضافة إلى هذه الخصائص الشعرية، وهذا التصوير المحموم للواقع، وتحويل اللغة الشفهية إلى شكل كتابي، مما يخلق إشكالاتٍ عويصة لمترجم سيلين. فالمترجم غالباً ما يحتار في كيفية تصوير زخم أسلوب سيلين جنباً إلى جنب مع الرسالة التي يحملها. إن جميع أنواع المشاكل التي يمكن أن تواجه المترجم موجودة في أعمال سيلين. ويتفق معظم النقاد أن أسلوبه هو أسلوب شاعر لذلك لا يكفي أن ينقل المترجم المادة المكتوبة، بل عليه أن يعبّر عن الشعر والإيقاع واللمسة الموسيقية (ذلك اللحن الصغير كما يسميه سيلين) واللغة الشفهية «المحوَّلة» وحيوية الانفعالات، باختصار على المترجم أن «يكسر العصا» تبعاً للمجاز الذي يقدمه سيلين، للتعويض عن الانكسار الذي يتعرض له الواقع عندما تتم طباعته على الورق. (كسر المترجمان العربيان العصا فعلاً ...ولكن على رأس سيلين)..‏

وبما أن أسلوب سيلين فريد في اللغة الفرنسية_حيث لم يتمكن أي كاتب فرنسي آخر من الارتقاء إلى أسلوبه_ فمن غير المحتمل أن يتواجد مثل هذا الأسلوب في أية لغة أخرى. ثم هناك مسألة تأثير سيلين الكبير وكآبته وحرده، هذه العوامل الناتجة عن اليأس والإحساس بالخطر، وهنالك تلك النغمة القيامية التي تصدح في نثره كله فيصف نوبة غثيان بسيطة بأبعاد ملحمية. إن إعادة انتاج تلك النغمة ليس بالأمر اليسير على الإطلاق.‏

كل هذه العناصر مجتمعة تخلق صعوبات جمة في ترجمة أعمال سيلين وإعادة إنتاجها بشكل يقترب، ولو قليلاً من النص الفرنسي . في الحقيقة ليس بمقدور المترجم وحده إنجاز هذا كله.‏

على القارئ أن يساهم في هذه العملية أيضاً).‏

في ملحق «الثورة» الثقافي (613 الثاني من أيلول 2008) تقريظ للترجمة السورية «للرحلة» عنوانه: لويس سيلين..هل ما زالت تلاحقه اللعنات...جاء فيه أنها (ترجمة بعيدة عن الحَرْفية وتشي بملكة لغوية وأدبية دخل بها المترجم لينقل إلى العربية عملاً من أصعب أساليب الكتابة. وهو بذلك يسهّل على المتلقي الدخول دون عناء للقراءة والتعرّف إلى عمل كبير لكاتب عظيم).‏

على أية حال، فإن سيلين احتاط لاحتمال ترجمة أعماله ولم يكتف بالحكمة اللاتينية الشهيرة: المترجم خائن Traduttore,Traditore.. بل نحتَ ليثأر من التراجمة سلفاً كلمةً جديدة من «مترجم» بالفرنسية Traducteur فجعلها Trouducteur –وهي كلمة لا توجد في المعاجم مركّبة من Trou أي «بُخْش» بالفرنسية ودوكتور التي لا أعرف لها كلمة تؤدي معناها في لغة الضاد..سأحاول الإفادة من طريقة حا..دي..لعلها تساعدني على اجتياز حاجز العثور على ترجمة مناسبة لكلمة «ترودوكتور»...‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية