|
ملحق ثقافي ذلك أن التاريخ والأدب ينتميان إلى زمنين مختلفين تماماً. هذا ما يفضي إلى أن التاريخ كان يعاني دوماً من رؤية واحدة، فيما الأدب متعدد الرؤى. هذه الفكرة الأساسية في حوار كاداريه تجعلنا نقتنع بأن الجريمة التي تقترفها النصوص المغلقة تكمن في محاولاتها تحويل الأدب المتعدد إلى تاريخ برؤية واحدة. فلغة الملحمة أو العرض النثري، وربما في جانب من جوانب الرواية الكلاسيكية، كانت تسعى عموماً إلى تفسير مفرد عن طريق أسلوب وحدوي، ومع تطور الفن الروائي وتبدله بحسب تطورات العصر العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية راحت رواية مغايرة تكتب في القرن العشرين ديدنها التعدد والتلون، وأضحت تلك الروايات، برؤاها المتباينة الملونة، قادرة على حفظ الحقيقة أكثر من التاريخ، فهي غير مسوّرة بالقدسية التي يملكها التاريخ، ولن يُتّهم أي من قرائها بالتجديف أو الخيانة إن لم يحفظ مقاطعها عن ظهر قلب، أو لم يؤمن بأبطالها الأسطوريين. فالرواية تستطيع أن تؤرخ الأحداث عبر كل الألسنة وبكل الألوان، ولنقل إنها الوجه الآخر للعملة، حيث لا أحد يمتلك الحقيقة من شخصياتها، فالجميع محقّون، على عكس التاريخ الذي لا يمتلك الحقيقة فيه إلا مؤرخه، أي المنتصر، والذي يستطيع تطويع التاريخ حسب رغباته وآماله وسطوته. فيما النسخات الهامشية من التاريخ، التي كتبها غير المنتصرين، زجّت في خانة التلفيق والمحرّم. كما أن أحداً لا يحتل المتن في الرواية، لأن النبش والكشف والفضح المرتبط بالهامش هو ديدنها، على عكس التاريخ أيضاً حيث يتلخص الخطاب البطريركي الذي يمسك به بالمطلق والثابت والمغلق، باعتبار التاريخ مكتوباً بيد السلطة والقوي والمتحكم كما سبق وقلت.
تلك الفكرة حول التاريخ والرواية أفرد لها «د.فيصل دراج» كتاباً بعنوان: الرواية وتأويل التاريخ، وفيه يرى أن الرواية وعلم التاريخ الأوروبيين، الذين تزامن صعودهما في القرن التاسع عشر، اتكأا على مقولة واحدة هي: الإنسان الباحث عن أصوله، بعد أن رأى في ذاته أصلاً لما عداه، فتعاملت الرواية مع إنسان دنيوي متعدد الطبقات، ورحل علم التاريخ إلى غرف الماضي المظلمة منقباً عن آثار إنسان في ماض تحرر من التأويل الأسطوري. إذاً تتخذ كل من الرواية والتاريخ مرجعاً واحداً هو الإنسان ولكن كل بطريقته، ذلك أن الرؤية الأحادية التي تسم التاريخ، والتي تجعل من الآخر عدواً، يحاول الأدب أن يتملص منها عبر فكرة جوهرية فيه هي التحاورية، بلغة الكاتب الروسي باختين، أو لنقل تعدد الأصوات، حيث يقوّل الروائي شخصياته كلاماً يريد قوله بقدر ما يقوّلها كلاماً لا يرضيه. فالسرد التحاوري يشتمل على أساليب وأصوات مختلفة كثيرة تتكلم مع بعضها البعض وأحياناً مع أصوات من خارج النص. وحيث الشخصيات تتراكب أو تتجاور، تتسلسل أو تتقاطع، وحيث تستطيع كل شخصية أن تبوح بأدق تفاصيلها الجوانية. ومن هنا أيضاً يتمتع النص بقدرته على أن يكون مختلفاً في كل قراءة، فهو مختلف حسب كل رؤية من داخله، ومختلف أيضاً حسب قراءته، إنه بذلك نص يرفض تثبيت المعنى/ معناه، حيث رفض تثبيت المعنى نشاط معاد للاهوت، إنه رفض للقدرة المطلقة وثالوثها المقدس: العقل، العلم، القانون. تلك الأقانيم الإيديولوجية الثلاثة التي تسم السرد، إن احتلته، بالتحجر والجمود، وربما بضيق الأفق والتلقينية. هذه التقنية التحاورية نقيضة بالدرجة الأولى لهيمنة الأحادية التي تقوم عليها البنية التحتية للمجتمع الأبوي، المجتمع القائم على مركزية الكلمة الذكورية والذي لا يستوعب إلا المنطق واللغة المماثلان له. يفضي بنا هذا إلى تلمس المشكلة في الكثير من الآداب العربية، وهي باعتقادي وبالدرجة الأولى عقدة التاريخ، ليس بما يعني إعادة كتابة التاريخ بل بما يعني عقدة الكتابة بلغة التاريخ، لأننا نستطيع إعادة كتابة التاريخ بمنطق يقوض تلك الهيمنة الذكورية، ويسيره، أي التاريخ، إلى اتجاهات تخلّصه من كل تلك الأحادية الثابتة غير القابلة للنقاش. لكن الكتابة بتأثير عقدة التاريخ تسم تلك الآداب عموماً بميل إلى رؤية واحدة أو تفسير واحد تفرضهما على العالم عن طريق أسلوب وحدوي مفرد ملقن ومهيمن. ولأن التحاورية تحتاج بالدرجة الأولى إلى الحرية، فلا حرية دون تعدد ولا تعدد دون حرية، فرفض الروائي/ الروائية احتكار الكلام ليصبح متعدداً في ذاته يتطلّب منه أن يكون مالكاً لهذه الطاقة من الحرية والتعدد في داخله، إنه كاتب/ كاتبة يستطيع أن يبرر كل الأفكار وأنماط السلوك والمعتقدات والإيمانات، لا يبررها فحسب بل يتمثلها في أثناء عملية الكتابة ليستطيع بالتالي كتابتها. فالنمط المغلق من الكتابة يغازل الرؤية الواحدة التي تفرضها السلطات القامعة، حيث بنية كاتبها تشبه بنيتها، وحيث بنية النص تشبه نصوصها المكتوبة باسم التاريخ. وللفكرة أمثلة كثيرة في بلاد الديكتاتوريات وليس ما فعله «ماو تسي تونغ» في عهده مقتصراً عليه بالتأكيد حيث كانت الصين ممنوعة من ترجمة وتداول الروايات الأوروبية الجديدة التي تحمل قيماً مغايرة لما يفرض في بلاده. ومازلنا حتى اليوم نقرأ كتبنا (الممنوعة) حين تأتينا قسراً وهي مسوقة من الإعلام الغربي. الأنماط المغلقة من الآداب التي تروّج لها السلطات المسيطرة راحت تربّي مع الزمن قارئاً يشبهها، يبحث بين الصفحات عما يغازل آراءه المقيمة، وعما يزيد من ترسيخ قناعاته وليس خلخلتها، وما يعمق أجوبته الجاهزة الموجودة أصلاً لا ما يثير فيه أسئلة جديدة، لا بل إنه يقف ضد النص إن أثار فيه تلك الأسئلة، إنه لا يحاسب النص إلا باعتبار الأفكار التي يطرحها ويدافع عنها، والأمثلة على ذلك كثيرة حيث حاسب العرب الكثير من الكتاب وأقصوهم لأنهم ليبراليون أو تالياً لأنهم شيوعيون وهكذا، فيما كانت تقنيات الكتابة والحرف الإبداعية العالية وخلخلة السائد ومساءلته هي آخر ما يتم النظر إليه، هذا طبعاً إذا تم النظر إليها. تكملة لتلك الطريقة الخاطئة في القراءة يخلق قارئ كسول ليس مستعداً أن يتعب ذهنه في المشاركة في إعادة الكتابة، كما يطلب إليه البنيويون، بل هو يتلقى مجرد تلق. ذلك أن الآداب التي ترفض كل ذلك أضحت بحاجة إلى نمط جديد من القراء، ولنقل إنه القارئ الذكي الذي لا يطلب فكرة جاهزة ولا إيديولوجيا جاهزة ثابتة بل يتمتع بالأدب. وما التحاورية التي تحدثت عنها إلا قدرة القارئ، كما هي قدرة الكاتب، على تقبل الآخرين والنقاش معهم وسماعهم وليس التمترس وراء رؤية التاريخ الأحادية. بالعودة إلى حوار «إسماعيل كاداريه»، الذي ذكرته في البداية، فهو يرى بأن الشيوعية مثلاً كانت أشد على الكتاب من النازية، أولاً لأنها تمتعت بوقت يفوق وقت النازية بخمسة أضعاف، وثانياً لأن الديكتاتوريات الشيوعية وجدت الطريقة المثلى لتدمير الأدب من داخله، وذلك في خلق الكاتب المدمر ذاك الذي يغتال صفحاته بشكل أفضل مما يغتالها أي جلاد أو طاغية، يغتالها بالكتابة الضيقة والإيديولوجية التي تكون بمثابة بوق إعلامي لجهة أو حركة أو حزب. كان الحكم الشيوعي هو مثال كاداريه لاعتبارات إيديولوجية خاصة به، وأنا أرى أن أي حكم متعنت فعل ويفعل الشيء ذاته مهما كانت منطلقاته الإيديولوجية، وبالتالي يصبح أي كاتب/ كاتبة يخضع في إبداعه لأية سلطة من السلطات الإيديولوجية أو السياسية أو الاجتماعية أو الدينية أو حتى الإبداعية ذا رؤية واحدة ولا يهم إن كان سليل حكم شيوعي أو ديني أو قومي أو غير ذلك!. ترجم المقابلة مختار الحلفاوي، ونشرت في موقع الأوان الإلكتروني www.alawan.org في تاريخ 29/6/2008 الرواية وتأويل التاريخ، د. فيصل دراج، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، ط1 2004 |
|