|
تحقيقات يتابع صديقي: بعد أن كبرت واتسعت رؤيتي للحياة... للحاضر ومايجري فيه.. للماضي وما كان فيه.. وأصبح عقلي يعقد المقارنات بين حضارات الماضي والحاضر صرت أشعر - ربما كما يشعر الأجانب الذين يزورون آثارنا - أشعر بأنني أتعرف على مهندسي عمارة ونحاتين وقادة عسكريين وجنود، ومديري مؤسسات (إسكان وري وصرف صحي) ماتوا منذ آلاف السنين لم يتخرجوا من جامعات مثل جامعاتنا.. لكنهم.. قاطعت صديقي قائلاً: هل تريد إخباري بأنك أصبحت مثقفاً كالأجانب تفضل زيارة الأماكن الأثرية على زيارة الملاهي؟!
لا أعرف إن كانت هذه المقدمة تصلح للدخول إلى موضوعنا حول الآثار (مدينة الأندرين) المذهلة؟ ولكن أردت التعبير من خلالها عن مدى الارتباط بين الوعي وتقدير قيمة الآثار... عن مدى أهمية فهم التاريخ الحقيقي من خلال معرفة الآثار ودراستها.. الأمر الذي يجعلنا نفهم الحاضر بصورة مختلفة... وربما نتجنب الكثير من الأخطاء أو حتى الكوارث.
متعة الزيارة تقع مدينة الأندرين إلى الشمال الشرقي من مدينة حماة، مسافة نحو 80 كم على حدود البادية السورية، في منطقة ذات تربة خصبة، ولكنها قليلة المياه حالياً. في الطريق من مدينة حماة باتجاه مدينة الأندرين الأثرية وعلى مسافة نحو 30 كم تمر بعدد من القرى الزراعية التي تشتهر تحديداً بزراعة الشعير حيث الأمطار مقبولة إلى تلك النقطة، ومن أهم القرى التي تتوضع على جانبي الطريق (معر شحور - تل دنين) وتحوي هذه القرية كنزاً أثرياً، وكانت المياه حتى وقت قريب، لا يزيد على ربع قرن - كما حدثنا بعض الأهالي تسير على وجه الأرض، وإذا ما أردت حفر بئر فإنك لا تحتاج إلى أكثر من عمق متر أو مترين، ولكن الآن خفت المياه، ولذلك يتجه السكان هناك إلى زراعة الزيتون، حيث ترى آلاف الدونمات المشجرة حديثاً بالزيتون. وتتابع طريقك باتجاه الشمال الشرقي فتخف كثيراً نسبة المساحات المزروعة بسبب ضعف معدل الأمطار، وبعد (20 - 30) كيلو متراً أخرى تمر بناحية الحمراء، وهي الناحية الإدارية لمنطقة ابن وردان والأندرين وجوارهما.
وأهم المعالم التي تشاهدها في طريقك هو قصر ابن وردان - المجموعة الأثرية المؤلفة من قصر وكنيسة وحصن عسكري متميز بطراز معماري يسمى الأبلق، حيث تتوضع ثلاثة مداميك من الحجر البازلتي الأزرق فوق بعضها ثم تأتي فوقها مجموعة طبقات من الحجر الآجري، ويقع هذا القصر على بعد 60 كم شمال شرقي حماة. وبعد ذلك تقطع نحو 20 كم فيطل عليك جزء من مدينة عجيبة تظهر من تحت الكثبان الرميلة والأتربة، وجزؤها الآخر مازال ينتظر العودة إلى الحياة ومعانقة الشمس من جديد.
الأندرين.. الموقع تقع مدينة الأندرين على مسافة 80 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة حماة وعلى مسافة 100 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب على أطراف البادية السورية، وكانت تقول كتب التاريخ إنها خط الدفاع الأول ضد غزوات أهل البادية. ذكرها ياقوت الحموي المتوفى سنة 1229م بقوله: أندرين اسم قرية في جنوبي حلب بينهما مسيرة يوم للراكب في طرف البرية، ليس بعدها عمارة... وهي الآن مغطاة بالتراب ليس بها إلا بقية الجدران.وكانت الأندرين أيام الرومان بلدة صغيرة اسمها (أندرونا) وقد ازدهرت في العهد البيزنطي.
شهرتها اشتهرت مدينة الأندرين بكرومها الكثيرة وخمورها المميزة فصدرت منتجاتها إلى داخل سورية وخارجها حتى بلغت شهرتها شبه الجزيرة العربية حيث ذكر خمورها الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في بداية معلقته التي تقول: ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا وقد جهد سكان الأندرين في عمارة مدينتهم وتغلبوا على الصعاب في وسط البادية ليحصلوا على حياة كريمة ورغد في العيش. ثم اهتم ملوك بيزنطة بالمدينة فحصنوها بسور وزودوها بكل المرافق الضرورية.
معالمها مدينة الأندرين ذات شكل مستطيل تقريباً محصن بسور تدعمه عضاضات مربعة الشكل (3 -4)م وفيه أبراج مراقبة وهي مربعة أيضاً. وتتألف من عدد كبير من المنازل السكنية والقصور والحمامات والكنائس والجوامع ويشقها شارعان كبيران مستقيمان شرق - غرب، وشمال - جنوب. وتعتبر البيوت السكنية في هذه المدينة ذات مخطط عمراني مميز يمثل نموذجاً مهماً للمنازل ذات الباحة الداخلية، وقد استعملت في البناء الحجارة البازلتية المنقولة من أماكن بعيدة في الزوايا والبوابات والأماكن المهمة من البنى بينما استخدم اللبن المتواجد بكثرة في الموقع لاستكمال البناء. المرافق وتضم المدينة مجموعة كبيرة من خزانات المياه إضافة إلى الأحواض الكبيرة الشبيهة بالبحيرات والتي تنتشر في محيطها، وتحصل على الماء من الأقنية التي تصلها من أماكن بعيدة لمسافة عشرات الكيلو مترات وداخل المدينة شارعان رئيسيان متقاطعان إضافة إلى شوارع فرعية، أما عن سور المدينة الذي ذكرناه سابقاً فتجدر الإشارة إليه فيبلغ قطره 1.8 كم مزود بصفائح بازلتية لحمايته من الرطوبة والحت. كذلك للمدينة بوابات عديدة أهمها البوابة الغربية التي ينتهي إليها الطريق القادم من حماة. الكنائس والحصن وتتوزع في الكنيسة أثنتا عشرة كنيسة مختلفة الأحجام ولكنها ذات طابع سوري أهمها الكنيسة البازليك الكبري التي تقع إلى الغرب قليلاً من الحصن والتي لاتزال بعض أطلالها قائمة وتعود معظم كنائسها إلى القرن السادس الميلادي. ويتوسط المدينة حصن مربع الشكل مزود بأربعة أبراج على الزوايا ويتوسط ضلعيه الغربي والجنوبي بوباتان عليهما كتابات وزخارف تؤرخ للبناء في عام 564 للميلاد، وتذكر اسم راعيه المدعو توما الذي بنيت أكثر الأبنية تحت رعايته. أسلوب البناء والوقاية من الزلازل المخطط العام للحصن النموذج هو مجموعة من الغرف والفراغات التي تصطف حول باحة مركزية وتتقدم هذه الغرف أروقة تقوم على ركائز حجرية من الحجر البازلتي تحمل عقوداً من الآجر المشوي وقد بني الحصن والحمام ومعظم الأبنية المهمة بالأسلوب المتناوب بين الحجر البازلتي والمداميك الآجرية، وهو الأسلوب المتبع في قصر ابن وردان القريب من المدينة، وهو أسلوب يعتمد للوقاية من الزلازل. الحصن والحمامات وتتوسط باحة الحصن كنيسة صغيرة مستطيلة الشكل ويستدل من أسلوب الإنشاء وبقايا المنشآت أن الحصن كان مؤلفاً من طابقين الأول يضم مستودعات التخزين والاسطبلات، والثاني مخصصاً للإقامة والسكن، كما يوجد في المدينة حمام من القرن السادس الميلادي وحمام آخر من الفترة الإسلامية المبكرة. وقد كانت معظم الأبنية الأساسية والمهمة في المدينة مزينة بالزخارف ولوحات بالموزاييك والغريسك الجداري وقطع الرخام والالاباستر، حيث عثرت البعثة السورية الألمانية العاملة هناك على بعض هذه النماذج ومنها لوحة فريسك مكتوبة باللغة السريانية. أهم اللقى الأثرية مدير متحف مدينة حماة الأستاذ كمال سليمان حدثنا عن مجموعة من أهم اللقى الأثرية المعروضة في المتحف وهي كالتالي: - مجموعة من النقود البرونزية التي تعود للفترة البيزنطية. - عدد من الجرار الفخارية مختلفة الأشكال والأنماط. - سرج فخارية ضوئية تحمل إشارة الصليب. - مجموعة من الأنابيب الفخارية التي كانت تستخدم لجر المياه المالحة. -عدد من القطع الحجرية والرخامية تعود للفترة الإسلامية عثر عليها في الحمام الأموي، منها قطعة رخامية عليها كتابة كوفية. - نقود اسلامية معدنية عليها كتابات إسلامية. مع رئيس بعثة التنقيب السورية بعد أن حدثنا رئيس بعثة التنقيب السورية في المدينة السيد راضي عقدة عن أهمية المدينة موقعاً وتاريخاً وقد ورد ذلك كله فيما سبق سألناه عن بدء تاريخ عملية التنقيب في المدينة فقال: يعود البحث الأول لموقع الأندرين إلى العام 1905 بإشراف عالم الآثار الدكتور بتلر.. ثم توقف العمل بعد ذلك بفترة قصيرة.. ونظراً لأهمية موقع الأندرين فقد تم تنظيم العمل الحالي بتعاون دولي منذ العام 1997 وتضم فرق التنقيب إضافة إلى الفريق السوري فريقاً ألمانياً وفريقاً آخر بريطانياً. وتابع عقدة يقول: يعمل الفريق الألماني في كل من الحصن - الاسطبل - بوابات المدينة، ويعمل الفريق الانكليزي في الحمام البيزنطي إضافة إلى خزانات المياه والمسح الآثري حول المدينة. أما الفريق السوري (برئاسته) فيعمل في الحمام الأموي وبيت بيزنطي توضع إلى الشرق من الحصن. توقف العمل! وسألنا السيد عقدة عن أسباب توقف العمل في مدينة الأندرين التي يذهل الناظر إليها لما يراه من قيمة أثرية وعن تاريخ توقف العمل فقال: أحيلت رئيسة البعثة الألمانية السيد كريستينا شروبة إلى التقاعد في العام 2005، فتوقف العمل من قبل الجانب الألماني، وتبعه الانكليزي عام 2006 واستمر الوضع على ذلك حتى الآن. العمل توقف من أجل التنسيق والترميم أما مدير آثار حماة الاستاذ جمال رمضان فأوضح أن السبب في توقف العمل في المدينة منذ العام 2006 يعود إلى الضرورة في وجود تنسيق مع هذه البعثات من أجل العمل في موقع موحد وثانياً من أجل ترميم ما تم التنقيب عنه وأضاف: في السابق كانت كل بعثة تعمل في موقع، وحالياً طلبت المديرية العامة للآثار والمتاحف أن تعمل هذه البعثات في موقع واحد تختاره. وعن التاريخ المتوقع لعودة هذه البعثات إلى العمل قال: أتوقع أن يتم ذلك خلال العام المقبل. وتابع رمضان: وجهت المديرية العامة للآثار والمتاحف لإعداد تقرير حول واقع الأجزاء المنقب عنها في الأندرين... وقد قمنا مع الجانب الألماني بزيارة للموقع وتم وضع تقريرين منفصلين واحد من قبلنا والثاني من قبل البعثة الألمانية، وقد أكدنا في تقريرنا على صحة وجهة نظر المديرية العامة للآثار والمتاحف من حيث ضرورة ترميم ما هو بحاجة إلى ترميم مما تم اكتشافه، ونحن نرى أن التنقيب من دون ترميم هو بمثابة تخريب، خاصة المدن الرومانية والبيزنطية. وسألنا السيد رمضان عن إمكانية وقوع سرقات أثرية في فترة عدم وجود منقبين فاستبعد إمكانية حدوث ذلك لأن الموقع تتم حراسته بشكل جيد. الجانب الألماني يريد التنقيب دون الترميم بدوره مدير التنقيب في المديرية العامة للآثار والمتاحف الدكتور ميشيل مقدسي أوضح أن المفاوضات تجري مع الجانب الألماني من أجل الترميم والتنقيب معاً وبين أن الجانب الألماني - حتى الآن - يريد التنقيب دون الترميم، والجانب السوري يرفض ذلك... ولا تزال المفاوضات مستمرة. وفيما يتعلق بالجانب البريطاني، أوضح السيد مقدسي أن المديرية حصلت على موافقة مجلس الآثار لتوقيع اتفاق معهم لدراسة المنطقة المجاورة لمدينة الأندرين وكذلك لسور المدينة، متوقعاً بدء العمل من قبل البعثة البريطانية خلال فترة قريبة. وخالف السيد مقدسي من سبقوه في الحديث بالقول إن البعثة السورية لم تترك الموقع ولا تزال مستمرة في العمل حتى الآن. |
|