تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


حديث الجذور!

كل أربعاء
الأربعاء 26-8-2009
سهيل إبراهيم

تمسك الصيف من طرف عباءته, وتذهب إلى ترابك الأول, كي تنفض الغبار عن جذورك الأولى, في قرية موجزة تغفو في حضن جبل استعاد اخضراره ونبته الفوضوي, ومحا عن جبينه مشهداً صخريا كان يتسلق شعابه من كل الجهات.

لا المكان هو المكان, ولا الزمان هو الزمان, ولا أنت أنت, فستون عاما كافية لاختراع كيمياء جديدة تطردك من المكان, وتسلبك زمنك القديم, وترسم ملامح غربتك بينهما, ككل تراجيديا إنسانية يفعل فيها الزمن فعلته على طريق نشأتنا التي تتفتح ورودها في فجر الأحلام, وتتهدم جذوعها في متاهة الغروب الأخيرة.‏‏

لم يبق شيء من ملاعب الطفولة, ولا الدروب الضيقة التي كنت تقطعها في الصباح وتدوس حصاها على إيقاع الزقزقة الصاخبة لعصافير النهار الطالع, ولم يبق شيء من جذوع التين والجوز العتيق على ضفاف الساقية التي تتوسد الحصا والصخر, غاب المنبع الشحيح الذي يختبئ مثل حجل مذعور في مكمن ضيق تحت إبط واد كانت عيناك تستجليان أسراره كل مطلع نهار.‏‏

اندثرت بيوت الطين, وسقوف الخشب وابتلعهما وحش الاسمنت وخلائط الآجر, وابتلع معهما ثغاءها الأول وحبوك الأول في زاوية رطبة من مهدك القديم العابق بالألفة, المندى بحنان أم يختصر دفء حضنها دفء العالم كله, تغير الشكل وتغير المضمون, فالمدنية الوافدة مع الآجر والرخام ومصابيح الكهرباء على طرق الاسفلت, استقدمت معها عللها وعيوبها التي تستوطن الروح, فتكت بطهارتها, وأيقظت في البشر فرديتهم ونفورهم من الآخرين, تضخمت ذواتهم, وانغلقوا على مشاريعهم الشخصية التي تكاد لا تنتهي.‏‏

وحده السنديان العتيق والأليف بقي يظلل جبينك بغصونه المتشابكة كأجنحة الطيور, واخضراره اليانع, كآمالك القديمة, وحفيف أوراقه, في أكف النسيم كموسيقا خافتة قادمة من سماوات بعيدة, ووحدها شجرة التوت الفارغة المقيمة قرب حلمك القديم, تستطيع أن تلقي كفك على جذعها المتين, وتقول من هنا تسلقت أولى الأشجار, وهنا كتبت الأحرف الأولى من اسمي بحد السكين, وهنا غفوت في عز الظهيرة وسكرت بأريج النسيم العليل.‏‏

كل الوجوه تغيرت, وتغيرت أنت, كل الصور التي أحببت مالت إلى الانحناء واشتعل الشيب في الرؤوس, كل الأتراب اغتربوا أو غابوا أو مالوا مع رياح العمر, فنهضت خلفهم قامات جديدة وتشكلت صور جديدة, وشقت الصمت أصوات جديدة لم تألفها آنذاك, فتحول المكان إلى مكان كان لك والآن أفلت من يدك, وتحول الزمان إلى زمان كنت فيه, والآن مالت شمسه نحو الغروب واستوى سواك على حصانه الجامح.‏‏

قلت الأسئلة ولم تتضح الإجابات بعد, وتراجعت الأحلام, ولم تكتمل الخيبات بعد, وسكن القلب في قفص الصدر كعصفور تعب جناحاه من الطيران, ولم يكمل غناءه بعد, وضاق الوعي بمكتشفاته ولم ينه رحيله الدائب خلف حقائق الكون بعد, ولم يهتد إلى معنى هذه الدراما الإنسانية التي عشت فصولها وفعل فيها الزمن فعلته.‏‏

هكذا ذهبت! فعلام عثرت, وكيف عدت من روائح ترابك الأول!؟‏‏

قامتان جليلتان ومهيبتان, كانا أبويك, وقد طواهما الثرى على مفرقي طريق, تحار على من فيهما ستلقي أولاً سلام الوصول, ومن منهما ستودع ساعة الإياب, فكلاهما ينتظران تلويحة يدك, وكلاهما الشاهدان الصامتان على أن المكان سيبقى لك, وأن ترابك الأول يحتضنهما كيفما دارت دورة الزمان! وأن كيمياء نشأة جديدة تتشكل خلف خطاك, فافسح لها الطريق كي تبني أعشاش أحلامها على جذوع سنديانك العتيق.‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية