تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


الجهـــــاد الآن فرض عــــــين فهي حـــــــربٌ لا أزمة ؟

شؤون سياسية
السبت 16-3-2013
عبد الرحمن غنيم

لا شك أن بين مفهوم « الحرب» ومفهوم « الأزمة» فارقاً جوهرياً كبيراً لا تخطئه العين . فالتعامل مع الحرب يختلف جوهرياً عن التعامل مع الأزمة . هذا أولاً .

وأما ثانياً, فإن من يواجه حرباً عدوانية يفترض أن يوجّه كل اهتمامه لضمان الانتصار فيها , وأن يكون معنياً فقط بمعالجة الأزمات التي تنتجها الحرب أكثر من التفكير في « أزمة داخلية» يحاول البعض تصويرها على أنها مصدر الحرب .‏

في خطبة الجمعة التي ألقاها أستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي يوم 8 آذار , وجدناه يخاطب المواطنين قائلاً بأن ما تواجهه البلاد من عدوان يتطلب وقوف الشعب كله الى جانب الجيش حيث بات الجهاد ضدّ المعتدين فرض عين وليس فرض كفاية فقط . وما لبث مجلس الإفتاء الأعلى في سورية أن أصدر يوم 10 آذار بياناً يعتبر فيه الجهاد للدفاع عن سورية فرض عين على جميع المسلمين . ومن المتوقع إن لم نقل من المؤكد أن تتعزز هذه الدعوة في العالم العربي والإسلامي رغم أنها واجهت وستواجه محاولات مضادة من قبل شيوخ الفتن الذين باعوا أنفسهم للطواغيت .‏

هذا المنطق يعني ببساطة متناهية أن علماء الدين في البلاد يرون أن سورية تواجه حرباً عدوانية خارجية عليها تستغل بعض الأدوات في الداخل , وأن المشكلة ليست مجرّد « أزمة سورية » .‏

قبل أن نناقش هذه الرؤية وما يترتب عليها من نتائج منطقية , يحسن بنا أن نقدّم فكرة عامة عن الفارق بين « الحرب » و « الأزمة » في ضوء استعراض بعض التجارب التاريخية .‏

لو عدنا بذاكرتنا الى الوراء لوجدنا أن تعبير « الأزمة » استخدم في بعض الحالات بديلاً أو رديفاً لتعبير « الحرب » . ولكن أيّ حرب ؟ .‏

مثلاً أدرج البعض العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 تحت عنوان « أزمة السويس » , على أساس أن تأميم قناة السويس كان السبب في إثارة أزمة جعلت بريطانيا وفرنسا تتواطآن مع الكيان الصهيوني لشن الحرب على مصر , وأن هذه الحرب تحوّلت الى أزمة في العلاقة بين المعسكرين الشرقي والغربي .‏

ثمة نموذج آخر للحرب المبتورة المقترنة بأزمة إقليمية ودولية يتمثل في أزمة خليج الخنازير بين الولايات المتحدة وكوبا , وتوتر العلاقة بين واشنطن وموسكو الى حدوده القصوى بعد نصب الصواريخ السوفياتية في كوبا . وهي مشكلة ترتب على معالجتها للحيلولة دون حرب كونية وقف العدوان الأميركي على كوبا . إلا أن استمرار وجود الأمريكيين في غوانتانامو الكوبية , واستمرار الحصار الأميركي على كوبا , يدلان على أن الأزمة لم تنته بعد .‏

النموذج الثالث للأزمة المعقدة , يتمثل في « الأزمة اللبنانية » التي أثيرت عام 1975. وقد انخرطت أطراف عديدة في هذه الأزمة , منها المحلية ومنها الإقليمية ومنها الدولية, واتخذت هذه الأزمة أشكالاً متعددة , وشهدت ضمن فصولها حرباً صهيونية واسعة على لبنان عام 1982 , كما شهدت تدخلاً أمريكياً وفرنسياً مسلحاً في بيروت مقترناً مع هجمات على مواقع الجيش السوري . وفي سياق الصراع نشأت المقاومة الوطنية اللبنانية التي أجبرت العدو على الانسحاب من جنوب لبنان مع نهاية القرن الماضي . ومع ذلك , يمكننا أن نلاحظ الآن بأن هناك قوى في لبنان تحاول جعل سلاح المقاومة جزءاً من أزمة لبنانية مفتعلة بدلاً من أن تنضم الى المقاومين لتعزيز قدرة لبنان على التصدّي للخطر الصهيوني !! . ومن حق المقاومة اللبنانية أن تعتبر في محاولات افتعال هكذا أزمة تمهيداً لعدوان صهيوني شامل محتمل على لبنان , وهو ما يحفزها على السعي لتطويق كل محاولة لتأزيم الوضع الداخلي اللبناني .‏

يثير الأسلوب الذي بدأت به إثارة الأحداث في سورية في شهر آذار من العام 2011 في سياق ما أسمي بالربيع العربي الاعتقاد بأن الأصل هو أن « الأزمة السورية » كانت الأرضية التي بنيت عليها التفاعلات اللاحقة بكل أشكالها . ولعل البعض يعتقدون أنه لولا « الأزمة » لما حدثت التطورات اللاحقة وما فيها من انغماس أطراف إقليمية ودولية في المشكلة . وبالتالي , فإن المشكلة في جوهرها هي مشكلة « الأزمة » , أما ما تكشف لاحقاً من انخراط أطراف كثيرة في إدارة حرب شاملة غير مباشرة على سورية فهي من تفاعلات الأزمة . ونحن نعتقد أن هذا التصور ليس صحيحاً البتة .‏

لو نحن قارنا بين النموذجين « السوري » و « البحريني » للأزمة , فلا بدّ لنا من أن نتساءل : لماذا لا تكترث أيّ واحدة من القوى المنخرطة في إدارة الحرب الكونية على سورية بالثورة الشعبية الحقيقية في البحرين , بل إن بعض هذه القوى تساند النظام الحاكم في البحرين عسكرياً في قمع شعبه بينما هي تجلب الإرهابيين من كل مكان وتمولهم وتسلحهم لشن حرب لا هوادة فيها ضد سورية ؟ .‏

ألا يشكل التناقض في السلوك تجاه الحالتين السورية والبحرينية دليلاً قاطعاً على أن آخر ما يمكن أن يحتج به المتآمرون على سورية هو الحديث عن الديموقراطية أو عن مطالب شعبية ؟ . فلو كان هؤلاء يحترمون المطالب الشعبية لكان عليهم أن يهبوا لنصرة شعب البحرين .‏

إنه لمن العبث , بل الغباء , الزعم بأن المشكلة تنطلق من أزمة سورية داخلية , اختلف حولها الآخرون فتحوّلت الى أزمة دولية . فما أنجزته سورية خلال العقود الخمسة الماضية من الزمن , يؤكد أنها ليست الأسوأ في المنطقة العربية بل الأفضل يقيناً . ثمّ إن النموذج السوري للديموقراطية الشعبية الذي صمد بعد انهيار منظومة حلف وارسو بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي يشكل في حدّ ذاته دليلاً على نجاح هذا النموذج . وحتى إذا قيل إنه بحاجة الى إصلاح أو الى محفزات إضافية , أي الى تطوير وتحديث , فإن هذا لا يعني بتاتاً أن أيّ نظام رأسمالي بحت في العالم هو أفضل منه أو يعطي لشعبه من الخدمات مثل ما يعطي . ولعل ما يدمّره الإرهابيون المعتدون الآن من إنجازات الشعب السوري وضخامة هذا الذي يجري تدميره ما يدلل على حقيقة أن سورية تواجه حرباً تستهدف تدمير منجزاتها لا حرباً تستهدف تطويرها . وعندئذٍ , لا بدّ وأن نتساءل : من يسعى وراء مثل هذا الهدف غير العدو الصهيوني بالذات؟ .‏

إن سورية مستهدفة بسبب سياستها الوطنية , وموقعها الجيوسياسي, وربما أيضاً بسبب ثرواتها . والأهم بسبب موقعها في محور المقاومة بمواجهة الكيان الصهيوني. فسورية مستهدفة لأن المقاومة اللبنانية والفلسطينية مستهدفة . وهي أيضاً مستهدفة لأن الثورة الإسلامية في إيران بما حققته لشعبها ولأمتها الإسلامية مستهدفة. وحين تكون هذه هي أهداف الاستهداف فمن الظلم , بل من التزوير الفاضح, القول بأن المعارضة السورية هي الطرف الذي يواجه السلطة السورية فيما يسمونها بـ « الأزمة السورية».‏

إن «المعارضة السورية» الحقيقية أو ما تسمى زوراً بـ « المعارضة السورية» كلاهما لا يملكان القدرة على لجم الإرهاب الذي يستهدف سورية . ولو طلب منهما ذلك لما وجدا سبيلاً للقول إن في مقدورهما ذلك . وهذا في حدّ ذاته دليل على أن الحرب التي تشنُّ على سورية من الخارج , ويشارك فيها مرتزقة إرهابيون مجرمون من 40 دولة على الأقل , هي حرب تشنها أطراف خارجية من ضمنها أو في مقدمتها الكيان الصهيوني. وهذه الحرب نجحت في توظيف بعض المرتكزات في الداخل من خلال التضليل والتمويل , لكنها تبقى حرب الخارج على الداخل . وبالتالي , فهي ليست «أزمة سورية ذاتية» بل «حرب دولية» تتم بأدوات الحرب غير المباشرة . وهذا ما استدعى نفخ نفير الجهاد .‏

قد يقول قائل: ولكن ألا توجد قوى تزعم أنها تمثل المعارضة السورية تدّعي وصلاً بهذه الحرب وتسعى الى استثمارها لصالحها ؟‏

ونقول : هذا صحيح . ولكن , متى كانت المعارضة في أيّ مكان من العالم تأتي بالأعداء لغزو وطنها ؟ أو تعدُ بما هو أسوأ بدلاً من التبشير بما هو أفضل ؟‏

أي معارضة هي تلك التي تدمّر المدارس والمستشفيات والمعامل والبنى التحتية والثروات الوطنية دون أن يعني ذلك أنها تدمّر نفسها قبل أن تدمّر هذه الأشياء ؟‏

أيّ معارضة هي تلك التي تقتل جنود وطنها ومواطنيها , وخاصة منهم الخبراء والعلماء , وتسعى الى تدمير الأسلحة الاستراتيجية التي أوجدها أبناء هذا الوطن للدفاع عنه بمواجهة خطر وجودي يتهدده هو خطر الغزو الصهيوني ؟ .‏

أي معارضة هي تلك التي تحمل أسلحة العدو الصهيوني لتقتل بها أبناء وطنها ؟ .‏

أي معارضة هي تلك التي تضع أجهزة للتجسس على أرض وطنها لتساعد العدو الصهيوني في حربه على هذا الوطن ؟‏

أي معارضة هي تلك التي تأتي الى بلد ديموقراطي لتبشر بإقامة نظام استبدادي ظلامي بديل من أنماط الأنظمة القائمة في دول مجلس التعاون الخليجي ؟‏

أي معارضة هي تلك التي تأتي الى بلد فيه بعض أشكال البناء الاشتراكي لتبشر بتحطيم كل ما هو ملكية عامة للشعب؟‏

أيّ معارضة هي تلك التي تدمّر ما حققه الشعب السوري من إنجازات بشقاء عمره بدلاً من أن تعد هذا الشعب بمزيد من الإنجازات؟‏

أي معارضة هي تلك التي تجعل من الأنظمة العشائرية البدْوقراطية الخليجية قدوة لها وترهن مستقبل سورية بإرادتها وإرادة الطاغوت الامبريالي الصهيوني المهيمن عليها؟ .‏

إن استخدام صفة «المعارضة» لمن يمارسون التخريب والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل قد أدّى في نهاية المطاف للإساءة للمعارضة , ذلك أن السلوك الإرهابي الظلامي التخريبي التجهيلي الأعمى الذي يمارسه من يشنون الحرب الظلامية الظالمة على سورية من شأنه أن يحطم المعارضة في مهدها وأن يحكم عليها بأنها إفساد في الأرض لا أكثر .‏

إن من يدّعون وصلاً بالمعارضة , ويقبلون لأنفسهم أن يلعبوا دور الغطاء للقوى الظلامية التي تشن الحرب على سورية , ليسوا من المعارضة في شيء , بل هم مجرّد عملاء. ونحن بهذا المنطق ننزّه المعارضة الحقة من المسؤولية عمّا يحدث على الأرض . لكن هذا التنزيه لا يعني تبرئة أحد ما لم يبادر هو بتبرئة نفسه من خلال الانحياز الى الوطن في مواجهة أعداء الوطن , ذلك أن كل من يقفون في ظلال الرماح الأمريكية الصهيونية الرجعية , ويصرون على الوقوف في هذا المكان , يحكمون على أنفسهم بالخيانة بينما هم يرون وطنهم يحترق على أيدي الأعداء .‏

لم تكن الخيانة يوماً ولن تكون أبداً وجهة نظر . والخائن لا يمكن أن يصنف في وطنه موالياً أو معارضاً , إذ إن الخانة التي يصنف عليها ليست خانة الولاء ولا خانة المعارضة بل خانة الخيانة والعمالة . ومن يضعون أنفسهم الآن في خدمة القوى المعادية في حربها على سورية , ليسوا موالين للوطن بغض النظر عن موقفهم من السلطة في الوطن , وإنما هم خوارج اختاروا الانحياز الى أعداء الوطن . وأمثال هؤلاء الخوارج لايمكن أن يكونوا شركاء في بناء الوطن الذي خانوه .‏

لقد قبل هؤلاء لأنفسهم أن ترتكب أفظع الجرائم ضدّ وطنهم باسمهم , حتى لا يحمّل المجرمون الحقيقيون أنفسهم المسؤولية . وهذا السلوك لا يعفيهم من تهمة كونهم شركاء في المسؤولية بل في عداد المجرمين الأصلاء , خاصة إذا اتضح أن الأمر ليس أمر إساءة فهم وتقدير للأمور , وإنما هو سلوك مدروس ومحسوب ومدفوع الثمن مسبقاً , أو تم لقاء وعود لاحقة بقبض أثمان الخيانة . فمن يبيع وطنه للأعداء لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يحتسب شريكاً يقف على قدم المساواة مع من ضحوا بأرواحهم في سبيل حرية وكرامة وأمن وسلام وانتصار إرادة هذا الوطن الحرة .‏

وعَوداً على بدء, إذا كان الوضع - وكما أعلن نداء مجلس الإفتاء الأعلى - يجعل من الجهاد في مواجهة المعتدين المجرمين فرض عَين لا فرض كفاية فقط , فإن الجهاد يكون ببذل الأنفس وبذل المال ومساعدة الجيش . وواجب الجهاد يفرض على الجميع موالاة ومعارضة أن يهبّوا معاً لمقاومة المعتدين ووضع حد لعدوانهم . إن ما تواجهه سورية هي حربٌ عدوانية خارجية عليها وليست مجرد أزمة داخلية فيها . وعلينا منذ الآن أن نتعامل مع الصراع الدائر على أساس هذا الفهم .‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية