|
ثقافة يعد ميخائيل نعيمة في اعتقاد النقاد أحد أهم أدباء الأدب العربي الحديث في المهجر والوطن وأسطعهم نجماً، فلقد سلخ الشطر الأكبر من حياته (عاش تسعة وتسعين عاماً) وهو يكتب كتباً مميزة تبني الحياة والإنسان والمجتمع وتمد الإبداع بذخيرة لا تنضب من القيم والمثل والخبرات والمعارف والأحداث والتجارب وتغوص في لج الثقافة الإنسانية المتنوعة الآفاق والأبعاد والدلالات، وقد تم له تأليفها وإصدارها في مغتربه بالولايات المتحدة الأميركية أو في بلده لبنان ونافت ثلاثين كتاباً استخدمت مختلف فنون الأدب وسائل تعبيرية لصياغتها كالمقالة والقصة والرواية والمسرحية والنقد الأدبي والسيرة الذاتية والخواطر النثرية ومقدمات كتب دبجها بقلمه لأدباء طالعين ناشئين أو معروفين متداولين، واتسم إنتاجه الأدبي عامة برؤية فلسفية ونزعة تصوفية وإيمان بنظرية وحدة الوجود في خلق الوجود. والمطالعة العجلى التالية ستتوقف توقفاً عابراً أمام ثلاثة من روائعه في النقد الأدبي ونظم الشعر والتأمل الكوني مستفيدة من مراجعات نقدية لهذه المفاصل الثلاثة في صنيعه الفني. وعلى الأخص ناقده الدكتور منح الخوري. 1- ميخائيل نعيمة ناقداً في (الغربال) يجمع الدارسون أن نعيمة هو ناقد «الرابطة القلمية» غير منازع، وأنه أشد أدباء المهجر ثورة على التقليد في كتابه «الغربال» (1922). وهذا الكتاب مجموع من الأبحاث النقدية التي كان المؤلف قد نشرها سابقاً في المجلات المهجرية وجعلها قسمين: الأول يحدد منهجه الانطباعي في تقييم الأدب والتعريف بالمقاييس الحديثة، والثاني يتناول بالنقد طائفة من الكتب والدواوين. انفصل نعيمة في نقده عن مقاييس النقد اللغوي - البلاغي الذي اعتمده النقاد القدماء، واستلهم في تكوين منحاه النقدي الخاص آراء الناقد الروسي «بيلنسكي»، كما أفاد من بعض آثار الناقد الإنكليزي «ماثيو أرنولد». فهو يؤكد أن الناقد يكشف نفسه فيما ينقد من الآثار الأدبية، وأن قوة التمييز الفطرية هي التي تبتدع بالتالي المقاييس وتصدر الأحكام. وعماد نظريته النقدية الاعتقاد أن الإنسان هو «محور الأدب» وأن الحياة والأدب توءمان لا ينفصلان. وهو يرى أن الأدب الحق يهدف إلى بناء الإنسان بما اشتملت عليه حقيقة النفس من فكر وانفعال أمام الحياة وأسرار الوجود، والإبداع عنده إنما هو تعبير جميل صادق كما أنه فعل حرية لا تمليه نفعية ولا يقيده تقليد أو دعائية خارجة عن توخيه التعبير في معاناة الإنسان لتجاربه في الحياة كما يحسها وينفعل بها. يتناول نعيمة في نقده قضية اللغة ويعتبرها من مظاهر الحياة التي تحتفظ بالأنسب في موكب التنازع في سبيل البقاء. وهكذا يصح للأديب أن يسقط أو يحيي ما يشاء من الألفاظ التي تفي بغايته من وسائل الأداء والبيان عن القصد. يقول في هذا الصدد: «حيث لا شعور لا فكر، وحيث لا فكر لا بيان، وحيث لا بيان فلا أدب». كذلك يتجلى موقف نعيمة التحرري في رفضه أن ينحصر الشعر في الفنون التقليدية من فخر ومدح ورثاء وغيرها من الأغراض، كما يتضح فيما أنكره من التقيد المطلق بعروض الخليل الذي كان في رأيه عاملاً أساسياً في توقف الأدب العربي عن النمو وما أصابه قبل عصر النهضة الحديثة من التصنع والجمود. غير أنه يلح على الاحتفاظ بالإيقاع والنغم في منظوم الشاعر، فيقول: «إذا كان الشعر والموسيقا توءمين، فالوزن الملائم لأحوال النفس ضرورة لازمة، شرط أن يتوفر فيه الائتلاف والتناسق والتوازن وترابط الألحان كما في سائر الفنون». أما التقيد بالقافية فليس في رأيه من مستلزمات الشعر، وفي ذلك دعوة صريحة إلى خلق نمط جديد هو «الشعر المنسرح»، كما سماه، وكما قبسه هو وجبران والريحاني من الشاعر الأميركي «والت ويتمن». ومن جملة ما دعا إليه نعيمة أيضاً استبدال وحدة البيت في تأليف القصيد بوحدة القصيدة بحيث يجعلها الشاعر عملاً فنياً تاماً يضم أبياتها ويؤالف بين أجزائها ويجعلها «كلاً» متماسكاً لا خلخلة فيها ولا فساد. كذلك نهى عن «التقريرية» في الشعر وأرسى الجودة الفنية على ما في الأثر الشعري من طاقة على الإثارة والإيحاء. ولعل أبين ما فارق فيه نعيمة معاصريه في المهجر والعالم العربي على السواء نجاحه الباهر في تطبيق المبادئ النقدية التي دعا إليها في «الغربال» على شعره في «همس الجفون» حيث تتجسد في أرقى مستوياتها، شكلاً ومضموناً، النماذج البديلة للشعر المنشود. وتلك مهمة كبرى أخفق في أدائها جبران في «مواكبه» وجماعة «الديوان» في مجموعاتهم الشعرية كلها رغم الحركة النقدية التي حملت في معظم مقاييسها دعوة أدبية مماثلة لدعوة المهجريين بعامة، ولنظرية نعيمة النقدية بخاصة. 2- ميخائيل نعيمة شاعراً في (همس الجفون) نشر نعيمة مجموعة «همس الجفون» سنة 1945 بعد عودته إلى لبنان بثلاثة عشر عاماً، وهي تضم جميع قصائده التي نظمها بين 1919 و1923 بالإضافة إلى ثلاث قصائد كان قد نظمها عام 1917 هي «النهر المتجمد» و«أخي» و«من أنت يا نفسي؟». كذلك تشتمل المجموعة على ترجمات بالشعر المنثور لأربع عشرة قصيدة نظمها نعيمة بالإنكليزية بين سنة 1915 و1930. خير قراءة لمجموعة «همس الجفون» أن يتناولها المتذوق كوحدة متماسكة رسمت لوحاتها يد فنان واحد، وانتظمت أجزاءها شواعر وتأملات نابعة من قلب الشاعر وفكره وخياله، ومستوحاة من تجاربه الذاتية ومواقفه إزاء قضايا الإنسان ومشكلات الوجود. يقول في قصيدته: «أغمض جفونك تبصر» التي تختصر في أبعادها الفكرية - التأملية ما تنطوي عليه سائر أناشيد المجموعة من الرؤى والأفكار: إذا سماؤك يوماً تحجبت بالغيوم أغمض جفونك تبصر خلف الغيوم نجوم والأرض حولك إما توشحت بالثلوج أغمض جفونك تبصر تحت الثلوج مروج وإن بليت بداء وقيل داء عياء أغمض جفونك تبصر في الداء كان الدواء وعندما الموت يدنو واللحد يفغر فاه أغمض جفونك تبصر في اللحد مهد الحياة يتجلى في هذه القصيدة الفارق الذي يراه الشاعر بين ظاهر الأشياء وحقيقتها، كما يتضح احتجاب جوهر الحقيقة عن عين الرائي وانكشافها لبصيرته ورؤيا خياله. أما «النهر المتجمد» من أناشيد «همس الجفون» فتجسيد لما عاناه الشعر حين كان طالباً في مدينة «بولتافا» الروسية من الشعور بالقلق والفراغ ومأساة الوجود حيث يختلف المصير وتتباين دروبه، فينطلق النهر، زمان الربيع من سكونية الجليد، ويبقى هو مكبلاً بقيود الحياة وأعبائها لا يستطيع فكاكاً من عقاله: يا نهر ذا قلبي، أراه، كما أراك، مكبلاً والفرق أنك سوف تنشط من عقالك، وهو.. لا ولعل «أوراق الخريف» من أروع أناشيد المجموعة وأبرزها للسمات الرئيسية التي يتسم بها شعر نعيمة من صفاء النغم، وطواعية اللغة، وشفافية الأداء، والطاقة الكبرى على الإيحاء: تناثري تناثري يا بهجة النظر يا مرقص الشمس ويا أرجوحة القمر يا أرغن الليل ويا قيثارة السحر يا رمز فكر حائر ورسم روح ثائر يا ذكر مجد غابر قد عافك الشجر وهكذا كما اتخذ من سياق ناموس الطبيعة مبدأ البقاء الشامل تقابله ظاهرة الزوال الفردي والفناء، وعبر عن هذا التضاد بين الكلي الدائم والفردي العارض في «النهر المتجمد»، يغني في «أوراق الخريف لحن الرجوع الأبدي إلى حضن الثرى حيث يتحد حلم ما كان، بحلم ما سيكون في موكب القضاء الشامل. وإذا نحن واصلنا هذه النزهة العجلى في خمائل «همس الجفون» نرى نعيمة منهمكاً بالسؤال عن ماهية النفس في «من أنت يا نفسي؟» وعن المصير والفناء في الوجود السرمدي في «قبور تدور» وعن قضية الخير والشر في «العراك» وعن القضاء والقدر في نشيده الرائع «الطمأنينة». يعبر نعيمة في شعره الذي أوردنا منه بعض المقتطفات تعبيراً صادقاً عن تجاربه في الحياة كما أحسها وانفعل بها، وليس غلواً ما يقال عن غلبة النزعة الذاتية الخاصة والإنسانية الشاملة في أدبه عامة على النزعة الواقعية الاجتماعية. غير أنه من الإنصاف الإقرار بما تعكسه بواكير إنتاجه في القصة والمسرحية والشعر من أحداث تمثلها بأروع ما يكون الالتزام صدقاً ومشاركة في المسؤولية قصيدة «أخي». يستلهم نعيمة في هذه القصيدة مأساة المجاعة في لبنان إبان الحرب العالمية الأولى عندما كان جندياً في الجيش الأميركي بفرنسا، فيبنيها على نغم مأساوي يصور أبناء قومه يجتاحهم الموت، ويدفن بعضهم بعضاً، مستسلمين بذل ومهانة لنكبات الحرب ورزايا القدر. يقول في ختامها: أخي، من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي والعار لقد خمت بنا الدنيا كما خمت بموتانا فهات الرفش واتبعني لنحفر خندقاً آخر نواري فيه أحياناً... قالها منذ نيف وثمانين عاماً، وما زلنا نتلو فيها لحناً جنائزياً هو أروع ما أبدعه شاعر معاصر في تأبين ما كان يعانيه لبنان من صنوف الخراب وما يعصف في أرضه من رياح العدم. لقد فارق نعيمة في هذه النماذج كلها شعراء عصره بقدرته الخارقة على تحويل تأملاته الفكرية في قضايا الإنسان والوجود إلى لحظات شعورية يرسلها في معادلات موسيقية أنغاماً حزينة هادئة، عامرة بالصور الوضيئة الموحية. ويتفق للشاعر في تكوين هذه الدفعات الإيحائية المهموسة أن ينوع الأوزان والقوافي فيدمج شطري الوزن الواحد، ويداخل القوافي ويؤالفها بانسجام محكم وذوق أصيل. وهكذا على الرغم من اعتبار نعيمة في طليعة الكتاب المعاصرين فإن أثره الشعري «همس الجفون» يعد بحق ماهداً مباشراً لتطور شعرنا الحديث وتجديده. 3- ميخائيل نعيمة فيلسوفاً في (مرداد) تبلغ الأبعاد الفكرية التي بثها نعيمة في معظم مؤلفاته ذروتها القصوى في كتابه «مرداد» الذي نشره بالإنكليزية سنة 1948 قبل نقله إلى العربية بعد ذلك بأعوام. فهو إذن، من نتاجه كأديب مقيم بعد أن شده الحنين إلى لبنان والعودة إليه سنة 1932. يتألف الكتاب من قسمين: مدخل يروي فيه قصة الكتاب، والكتاب نفسه الذي يضم تعاليم مرداد ويقص سيرته الذاتية. ملخص فلسفة نعيمة في «مرداد» أن أول ما يعيه الإنسان من وجوده في الكون هو «ذاته» التي هي محور ما يعانيه في حياته من الأهواء والنزعات والتجارب. وهكذا فإن وعي الإنسان لذاته ومعرفته لنفسه على حقيقتها يتحولان عنده إلى واجب أساسي يستلزم أداؤه أن يتصل اتصالاً حميماً بجميع ما يحيط به في هذا الوجود من الأشياء والكائنات وأن يحبها جميعها بمثل ما يحب به نفسه قوة وإخلاصاً. فإذا ما ارتقى الإنسان في مدارج التعرف إلى نفسه واكتشاف حقيقتها انتهى إلى اليقين بأن ذاته في جوهرها إنما هي الوجود السرمدي بكليته - هي الله في اشتماله على كل شيء وحلوله في كل شيء. على هذا النحو يبدو الإنسان الحقيقي مشدوداً في وجوده بين قطبين متقابلين: بين ذاته الأرضية الصغرى، وذاته العلوية الكبرى. وكالمسيح معلقاً على الصليب، يصور نعيمة الإنسان في حياته مصلوباً بين الأرض والسماء، ولا يرى نهاية لمأساته إلا في تحرره من منازعه الأنانية وانعتاق روحه في سجنها الأرضي وعودتها إلى أحضان الوجود السرمدي لتفنى في كيانه فناء الجدول في المحيط. قد تختلف مواقفنا، رفضاً أو قبولاً، إزاء هذه الفلسفة الصوفية المثالية التي آمن بها نعيمة ودعا إليها. غير أننا لا نملك سوى الدهشة والإعجاب بما فيها من الحنين الصاعد إلى الله، والتسامي إلى الأمثل من الأخلاقية الفضلى التي تتحقق بها إنسانية الإنسان والتي عاشها نعيمة في حياته الرصينة النيرة. خاتمة ورأي: تتجلى فكرة التجديد في الأدب والفكر والثقافة لدى نعيمة ناقداً وشاعراً وفيلسوفاً، فهو في نقده اعتمد على الفطرة والعفوية والسليقة وأدوات التذوق الخاصة بالذات النقدية عنده متجاوزاً المقاييس البلاغية القديمة المعتمدة في النظر إلى الشعر والحكم عليه فكان نقده لبعض قصائد شعراء (الغربال) نقداً انطباعياً تأثرياً غالباً يتكئ في معظمه على اللغة الإنشائية أكثر من اتكائه على المصطلحات النقدية المؤطرة. وهو في شعره كان ابتداعياً، ابتكر موضوعات شعرية استمدها من تجاربه الذاتية، وروحه الصوفية وتعلقه بالطبيعة الحية الناطقة، وعبر عنها بأسلوب انسيابي رشيق شفاف وصور مفعمة بالحركة واللون واستخدم فيها الأوزان المجزوءة وقوافي المقاطع، وهو في تأمله الفلسفي تناول قلق الإنسان وتناوحه بين ذاته الأرضية وذاته السماوية وحيرته في اكتشاف المجهول المفضي إلى المصير، وتشوفه للوصول إلى نشوة السعادة في الحياة والممات وحلم الأبدية في الوجود المتصل بالخلود. |
|