|
آراء فبات مسكوناً بالضوضاء التي تثير أعصابه وتربكه. ما يصيبه بالقلق وعدم الانسجام في سلوكه مثلما عدم اتقان عمله. فهل يدري السبب ، أم أنه أدمن الصخب الذي تفشى في حياته وسلوكياته دون أن يدري كيف يتخلص منه؟. لاشك أن الانسان كائن متغير ومتطور، ليس فقط من الناحية الشكلية وإنما من ناحية مواصفاته وتقلباته المزاجية - إضافة إلى التطورات الهرمونية التي تصيبه في كل مرحلة من مراحل حياته المتأثرة بمراحل تطور المجتمع. فإذا كان الصوت إحدى القواعد الهامة التي تنمى لدى الانسان ومنذ الطفولة الحواس المعرفية التي تجعل منه صانعاً للكلام من خلال تحفيزها لجهازه العصبي، وتطويرها لنضجه الفكري، فهذا لا يعني أن تتمرد على ذائقته النفسية فتحول حياته إلى جحيم من نار التوتر والانفعال والغضب.. إنه التطور الحضاري الذي وكما أكدت الدراسات، أدى إلى انتشار ظاهرة الأصوات العالية ، وبطريقة جعلت الانسان وبلا شعور يدمن عليها إلى أن بات يتكلم في المنزل والعمل والمقهى وكل مكان بصوت عال معتقداً بأن صوته لن يسمع إلا إذا ارتفع، وهذا ما يعتقده غيره أيضاً ، وهكذا إلى أن تتحول جلسة المناقشة إلى ضوضاء وصخب.. نعم، ضوضاء وصخب هذا ما أثبتته الدراسات الطبية والنفسية التي أكدت استمرار تزايد خطر هذا الادمان ، على صحة ونفسية وشخصية الإنسان الذي أصبح من الصعب عليه إيجاد طريقة تساعده في الاقلاع عنه. وبغض النظر عن تلك الدراسات وما أكدته ، فالجميع يعرف أن أهم طرق معالجة المرضى ولاسيما النفسانيين تتم ضمن مناطق أو مستشفيات يراعى فيها وجود قدر كبير من الهدوء الذي من المفترض أن يعزف ألحان الحكمة كنسمات موسيقية رحيمة تقضي على قلق المريض لاسترخاء وراحة أعصابه. وبعيداً عن كل ما يثير لديه الاحساس بالتوتر والانفعال والغضب. وبعكس ذلك، ومن المعروف أيضاً ، أن من الأساليب المستخدمة لانهاك جهاز المعتقلين العصبي الاصوات الصاخبة التي تسبب لهم التوتر والانهيار ليسارعوا منهكين لتقديم اعترافاتهم وذلك رغبة منهم بالتخلص من الضرب بقسوة على أوتار أعصابهم.. إذاً ، هل تقول بأنها اللعنة التي أهدتنا إياها الحضارة؟ بالتأكيد.. فالانسان القديم كان يسمع أصواتاً يراها بدائية كزمجرة الريح وصفير العواصف ودوي الرعد وأيضاً زقزقة الطيور وحفيف الأشجار وخرير المياه.. مثلما أصوات الحيوانات التي ألفها. والتي كانت طبيعية بالنسبة له، بحيث جعلته يشعر بوجوده ، بل ويقلدها لتتحول إشاراته ورسوماته إلى أصوات وكتابة واختراع وتطور أوصله إلى الحضارة التي نسعى إليها فبدأت تزعق بأصوات الآلات والطبول والسيوف ومن ثم القنابل والألغام والصواريخ .. وهكذا إلى أن تحولت أذنه إلى فوهة صخب على وشك الانفجار الذي ستكون لغته وخيمة.. كيف لا، والانسان الذي يعيش حالة إدمان إرادية أو قسرية للضجيج، يبقى في حالة توتر دائم تؤثر على صحته وأيضاً فكره الذي يتشتت فيه التركيز ما يؤثر على كل ما يقوم به من أعمال. ألا يكفي التوتر ومن ثم القلق والارتباك . ربما لا يكفي لندرك أن الضجيج سبب من أسباب عدم تماسك الشخصية والشعور بالغضب الذي عندما يزيد عن حده يشكل حالة انسانية مخيفة على استعدام لارتكاب الجرائم.. إننا، وفي عرضنا لتأثيرات الضجيج القاتلة، لا نطلب بأن ينعزل الانسان فيفقد الألفة والاختلاط مع الأحبة... وليهمل العمل منزوياً في أمكنة بعيدة عن ضوضاء الحياة.. إننا وبكل رغبة وحاجة ندعو للتخفيف من حدة الضوضاء التي نفتعلها ، انطلاقاً من ذاتنا فأسرتنا .. فمحيطنا لاسيما في ظل التزايد السكاني الهائل الذي يعتبر سبباً آخر من أسباب ازدياد ايقاعات الضجيج والتوتر المستمر. لا أعرف إن كان ذلك يجدي في زمن تتزاحم فيه كل يوم آلاف الأصوات للسيطرة على استقرارنا منذ صحونا حتى غفوة ليلنا ، فأحلامنا.. ربما لن يجدي .. في المحصلة ومهما حاول الانسان ، هناك عدو يلاحقه يضرب على أعصابه وتفكيره.. ليتحول إلى كائن هو خليط من مجموعة ممنوعات أشدها فتكاً بحياته، الضجيج الذي سيبقى يحيط به ويلاحقه ليس إلى أحلام ليله فقط وإنما أيضاً إلى مثواه الأخير. |
|