تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


مرافىء الذاكرة... الـضيـــاع .. والحبيب الأبيض

آراء
الأثنين 27-7-2009م
د. طالب عمران

انضم لي في القمرة شابان باكستانيان أحدهما من كراتشي واسمه حامد والآخر من لاهور واسمه جاويد. الأول كان يقضي عطلته السنوية بين أهل زوجته في لاهور ،

والثاني كان في طريقه إلى كراتشي، حيث يرحل منها عن طريق البحر إلى دبي ، بعد أن حصل على تأشيرة دخول للعمل.. عن طريق سماسرة العمل الذين نشروا وكلاءهم في المدن الكبيرة في الباكستان والهند..‏

بدأنا حديثاً للتعارف ، قطعه دخول متسولة جلست في الجانب المقابل لنا وهي تدندن بأغنية حزينة وتنظر نحونا.. عرفت أنها بلهاء من نظراتها وحركاتها، أخرجت مشطاً من بين حاجياتها وبدأت تبلل يدها باللعاب وتسرح شعرها، وهي تغني أغنيتها الحزينة .. وتطلق آهاتها وتنظر نحونا.. ( ميراعشق جوان سفيد) ..كنت سارحاً وأنا انظر إلى الخرق التي التحفتها، والطعام الذي فرشته أمامها والمكون من خبز صغير رقيق ( يسمونه شاباتي ) وطعام مكون من خضرة موضوعة في ورقة شجر مجففة، سألت حامد عن قصتها مع الـ (ميراعشق جوان سفيد ) - أي محبوبتي شاب أبيض - فضحك وهو ينظر لي وقال : (( قصتها مشهورة هنا ، حين بدء زيارتي للاهور التقيت بها في المحطة أيضاً وأخبرني والد زوجتي أنها كانت خادمة في بيت شاب من المانيا كان يعمل في شركة طيران ، ويبدو أن علاقة مانشأت بين الشاب وخادمته أدت إلى حملها ، فترك الشاب المدينة إلى ( راول بندي) حيث أقام هناك فلحقت به الفتاة بعد شهرين وتمكنت من معرفة عنوانه في ( اللوفتهانزا) ، ولكنه طردها وأساء معاملتها.. فعادت إلى لاهور وأجهضت بعد وصولها بأيام وقضت أياماً مشردة في الشوارع غائبة عن وعيها.. تنادي حبيبها الضائع إلى أن صدمتها سيارة نقلت بعدها إلى المستشفى حيث عولجت وخرجت شبه مجنونة ، ولكن جنونها من النوع الهادئ غير الخطر.. لو تشاهدوها في الليل والناس يتجمعون حولها وهي تغني وتتفجع ؟)) ‏

كانت المرأة عندها تتناول طعامها وتمصمص أصابعها بين اللقمة والأخرى ، وتمسح فمها بطرف ثوبها كلما تلوثت جوانبه بالطعام..ثم سحبت من حوائجها زجاجة ماء، وضعت مقدمتها في فمها وأخذت تعب.. ثم أغلقتها بعناية وأعادتها إلى مكانها.. وسوّت بقايا الطعام ولفته بين حوائجها من جديد.. وتناولت المشط من جديد وأخذت تسرح شعرها.. وتنظر لي..‏

نظر لي حامد وهو يضحك ثم قال: (( لعلها تذكرت حبيبها ألا تراها تمعن النظر فيك ؟ )) قلت: (( لاأعتقد أن شيئاً آخر يشغلها )) فقال : (( شكلك المختلف عن سحنة الباكستانيين ، فتح جروحها .. انظر إليها إنها تبكي..)) وفعلاً كانت المرأة تبكي بحرقة .. وتنظر لي ، شعرت بالانقباض والخوف والشفقة معاً.. ولم أتمكن من النظر إليها، وأحس حامد بذلك ، فطلب من المفتش الذي دخل إلى العربة أن ينزلها، خاصة وأن صافرة القطار بدأت تعلن عن قرب موعد حركته.. وبصعوبة بالغة تمكن من المفتش من انزالها وهي تنظر نحونا نظرات تقطع القلب والدموع تسيل من عينيها ..‏

* * *‏

في القطار ينتشر الباكستانيون مع أشيائهم .. ومع أنها الدرجة الأولى في القطار ، ويزيد ثمن التذكرة نحو الضعف عن ثمن تذكرة الدرجة الثانية ، الا أنها مضطربة غير مرتبة ، تضرب فيها الفوضى أطنابها، دون فرق يذكر عن الدرجة الثانية .. بدأت تشعر فعلاً أن الباكستان لاتفرق كثيراً عن الهند في غلاء الأسعار، وعدم الإحساس بقيمة الإنسان ..حولك جمع من المستولين يصرخون ويستعطون بجمل اسلامية ماتعودت على سماع مثلها في الهند .. ( حسنة لله - من مال الله 00 ) كل ينادي بطريقته الخاصة التي يكثر فيها الغناء أحياناً والصوت الشجي00‏

بدأ القطار حركته نحو الثالثة بعد الظهر ، وانضم إلينا شاب باكستاني آخر ، سوّى السرير العلوي منذ الدقائق الأولى ، وارتدى ( فوطة ملونة) ونام00 ولم نحس بوجوده بيننا خلال الساعات الأخيرة من الرحلة التي استمرت نحو ( 22 ) ساعة بين لاهور وكراتسي00 تبادلت حديثاً طويلاً مع حامد ، الذي يتقن الانجليزية ، وكان الحديث يدور حول باكستان في ظل نظام ضياء الحق ، وباكستان في ظل نظلم بوتو00‏

قال لي : - صحيح أن ذو الفقار علي بوتو خلق جوّاً من الحرية في الباكستان ولكنها كانت حرية مقنّعة لقد كسر القيود الدينية حيث أباح شرب الخمر، والمحرمات المنصوص عليها في الشريعة الاسلامية00 وكان هو نفسه يشرب الخمر ويطارد النساء ، ولايهتم بالتعاليم الإسلامية00 بينما حظّر ضياء الحق على الباكستانيين المحرمات الواردة في الشريعة وفرض الحجاب ومنع تجول النساء في الشوارع ، وأغلق المدن00‏

قلت :- المسلمون الهنود يحبون بوتو لأنه كان يتعاطف معهم في أية محنة تجري بينهم وبين الهندوس‏

قال: - نحن نعرفه في الداخل أكثر 00‏

قلت : - ولكن بوتو كان رجلاً معتبراً على صعيد السياسة الدولية00‏

قال:- أتعلم أن أمه هندوسية ، جاء إلى هنا في الخمسينات مع أسرته ، وتدرج في السلطة حتى أصبح الحاكم المطلق00 وله حزب كبير لايزال قويّاً في الباكستان ، حتى الآن 00 كان مطمئناً تماماً لضياء الحق ، ويثق به 00‏

قلت : - ولكن ضياء الحق لم يرحمه ؟‏

قال : - لم يرفض ضياء الحق حكم المحكمة ، التي طلبت تنفيذ حكم الإعداد ( ببوتو ) ، مع أنه كان بإمكانه أن يلغيها، أو تحويلها للسجن، أو حتى العفو عن بوتو 00 ولكنه احترم المحكمة واعتبر ( بوتو) كأي مجرم عادي يستحق العقاب00 نحن فخورون بضياء الحق لأنه مسلم يصلي الصلوات الخمس ولايشرب 00 وقد انقذ البلاد من التغلغل الشيوعي ألا ترى ماحدث في أفغانستان؟ حكومتنا تساعد الثوار المسلمين هناك لأنهم مع الحق 00 صحيح أننا نهتم بمسايرة أمريكا، ولكن أمريكا تحمينا من التواجد الشيوعي وتدعمنا عسكرياً ومادياً00‏

قلت : وكيف تتحدث عن أمريكا بكل هذا الود ، وتنسى أنها عدوة الشعوب المكافحة ، وتاريخها ملطخ بالدم منذ عشرات السنين00 أتعتقد أنها تضع ثقلاً لها هنا، دون نوايا عدوانية ؟‏

قال: يكفي أنها تحمينا من الشيوعيين 00‏

لم أتمكن من متابعة الحوار معه إذ دخل المفتش يسأل عن البطاقات 00 كان كهلاً نحيفاً بنظارات سميكة00 جلس إلى جوارنا ، وتحادث معي بالفارسية وقد اعتقد أنني إيراني، بادلته الحديث وأجبته على أسئلته دون أن أصحح خطأه ، رغبة مني في سماع رأيه بالثورة الإيرانية وقد بدأ - دون أن يفسح لي مجالاً - يتحدث عن مساوئ حكم الشاه00 وسجونه ، وتعديه على الحرمات 00 والفساد الذي نشره في بلاده بكافة الأشكال00 ثم سألني فجأة (( ومن أي مدينة أنت ؟ )) قلت له بالفارسية عندها أنني عربي00 فاعتذر مني ومضى يتابع جولته التفتيشية00 دون أن يكمل حديثه00‏

* * *‏

كان القطار يقطع المسافات عابراً المروج الخضراء ، والبساتين المليئة بشجر ( المانغو ) يتوقف في محطات كثيرة على الطريق ، في قرى فقيرة أو مدن صغيرة أو سهول خالية جرداء00 إلا من بيوت متناثرة تشكل تجمعاً سكنياً لعمال في مصانع تنتج مواد استهلاكية 00 وأنا موزع بين النافذة والنوم المتقطع لدقائق أصحو بعضها على توقف فجائي للقطار ، من جراء عطل صغير أو خطأ في برمجة قطار قادم 00 وجيراني من حولي منشغلون بأحاديث خاصة، لم يشركوني بها ، إذا عرفوا أنها لاتهمني00‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية