تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


نــازك الملائكــــة.. والثنائيــــــــات الإنســــــــانية

ثقافـــــــة
الأحد 17-3-2013
 حكمات حمود

شكلت نازك الملائكة مع زميلها بدرشاكر السياب وزميلها الآخر عبد الوهاب البياتي ظاهرة شبه جديدة مع حفظ الخصوصيات الشعرية الفردية لكل من الشعراء الثلاثة وجرى الحديث غالباً عن ابداع هؤلاء الشعراء

من خلال التغيرات الجريئة التي قاموا بها فيما يتعلق بنظام القصيدة من حيث الايقاع والوزن، وتفردت نازك بين الشعراء الثلاثة بمحاولة وضع الأسس النظرية التي بنيت عليها حركة التجديد تلك. إن شعر نازك الملائكة مجال خصب للدراسة والبحث والكشف عن أبعاد فنية ونفسية واجتماعية والغوص في أبعاد الثنائيات الإنسانية في شعرها، منهما ثنائية الموت والحياة.‏

الحزن والسعادة - الحرية والقدر- الرجل والمرآة- الزمان والمكان- حيث شغلت هذه القضايا الفكرية الشاعرة فانعكست في شعرها الذي عبر عن طريق هذه الثنائيات عن تطور فكري عميق.‏

الموت والحياة- شغلت فكرة الموت حيزاً كبيراً من تفكير الإنسان منذ قديم الزمان ودارت معظم الأساطير حول موضوع الموت والخوف منه والبحث عن الخلود والانبعاث، ونازك الملائكة من هؤلاء الذين طغى عليهم التفكير بالموت، ولكن الغريب في الأمر أن نازك كانت شابة حين بدأت فكرة الموت تسيطر على تفكيرها وتنعكس في شعرها، ورافقها ذلك عبر مراحل حياتها وظهرت هذه السيطرة أوضح ما ظهرت في ديوانها الأول. في هذا الديوان قلق وتشاؤم وتساؤلات لا تنتهي ولاتجد أجوبة لأنها تتعلق بالحياة والموت ومصير الإنسان بعد الموت وتبدو فكرة الموت من قراءة العنوان- مأساة الحياة وأغنية للإنسان- فالعبثية وعدم الجدوى والحلم الذي لا يتحقق والوجود المظلم الذي لا صباح له. وعن هذا تقول نازك في مقدمة الديوان: «الواقع أن تشاؤمي قدفاق تشاؤم - شوبنهاور- نفسه لأنه كان يعتقد أن الموت نعيم لأنه يختم عذاب الإنسان، أما أنا فلم تكن عندي كارثة أقسى من الموت» وربما نتيجة لهذه الفكرة نظمت الشاعرة قصيدة- بين فكي الموت- التي تودع فيها الحياة وربما أيضاً انطلاقاً من هذه الفكرة نراها في قصيدة- نداء إلى السعادة - تطالب الناس بالاستمتاع بالحياة قبل أن يحل وقت الرحيل.‏

والقيمة الحقيقية للموت حسب نظرة الشاعرة أنه لم يعد نهاية وإنما صار باب الحياة الحقيقية ومعرفة المعرفة لا تتسم إلا بالموت، فالموت إذاً هو الحياة الحقيقية.‏

الحزن والسعادة..‏

الحزن والسعادة ثنائية حيرت الشاعرة بقدر ارتباطها بثنائية الموت والحياة وإذا كان الشعور العميق بالحزن ظاهرة عامة لدى الشعراء جميعاً، فإن الشاعرة قد تكون فاقتهم بذكر الألم والحزن والضياع والغربة والدموع. فالجمال والربيع مقترنان بالأوهام والأحلام، لأنهما لا يملكان صفة الديمومة، وهذا التفكير لابد أن يقود إلى الحزن والتشاؤم، وربما المتشائم لا يرى سوى النصف الفارغ من الكأس.‏

فلم تهتم نازك بالفكرة المقابلة أي أن الحزن أيضاً غير دائم وقد يحمل بذرة السعادة وزوال مظاهر الطبيعة الجميلة يحمل بذرة انبثاقها مرة أخرى وهي دورة الطبيعة وقانون الحياة، فالسعادة فقاعة بما توصيه الكلمة من عدم الثبات وسرعة التلاشي وبهذه النظرة إلى السعادة، وبعد معاناة طويلة مع الحزن قررت الشاعرة أن تحول الحزن أغنية تترنم بها وكأنها عندما لم يكن ما تريد أرادته كما يكون.. ولكن الشاعرة كانت مقتنعة بوجود الحزن والسعادة كمتلازمين تعزيزاً لقناعتها بوجود الموت والحياة، ولهذا تورد الحزن والسعادة توءمين في قصيدة- السماء في غابة الصبير- إنها ترى العذاب والحزن هما الوجه الأخر للسعادة والعكس صحيح.‏

الرجل والمرآة‏

قد يكون ميدان العلاقة بين الرجل والمرأة الأرحب، لتعبر نازك عن نفسها وعن معاناة خاصة.. فالحب في لحظاته المحرجة حين يقف بين رغبة ملحة بالافصاح عنه وكبرياء صارم يكبح هذه الرغبة. هنا تأتي قصيدة - كبرياء- إلى عمق المشكلة مباشرة من خلال قراءة عنوانها، حيث تفضل الشاعرة الاحتراق بحرارة أدمعها على أن تبوح بأسرار قلبها خشية المهانة. أو الحفاظ على هيبة المشاعر وجلالها، وهذا ماجعل الشاعرة تعاني معاناة مضاعفة، معاناة بسبب قيود المجتمع ثم معاناة خاصة لأن القيود المفروضة عليها أكبر،فهي من المجتمع مرة ومن الرجل مرة أخرى، وصورة الحبيب عند نازك قد تكون متصلة باللاوعي الجمعي كما ترسمها الحكايات الشعبية، وهذا ما عبرت عنه في قصيدة- الزائر الذي لم يجيء- ولعل نازك وبكبرياء أنثى رزقت بعبقرية ومقدرة خشية من أن يحاول الرجل فرض سيطرته التقليدية عليها لو أتاحت له أن يصل معها إلى ذروة الأخذ والعطاء، إلى الاندماج الكامل كما في قصيدة نغمات مرتعشة- إن أكثر ما يؤلم الشاعرة واقعية الرجل العملي المؤلمة في مقابل شفافية الشاعرة ورقتها وأنوثتها، وحبها المسافر على جناح الحلم عبر عالم الخيال، وهذا ما عبر عنه «بايرون» بقوله: «إن حب الرجل لهوشيء منفصل عن حياة الرجل أما حب المرأة فإنه صميم وجودها بأكمله»،‏

الزمان والمكان‏

عندما يقول الرياضيون إن الزمن بعد رابع، فإنما يعنون بذلك أن كل ما يحتل مسافة فهو زمني أي أن المسافة ليس لها وجود حقيقي إلا في الزمان، وحين تكثر نازك الملائكة في وصف الأماكن الطبيعية وحبها لها فإنه لا ينفي الكآبة عنها في فصول السنة كلها، ووصفها ينصب على الوجه القاتم لا المشرق في كل فصل فحين تصف الخريف فإنها صوت الحمام المهاجر، والسحب العابرة، وجفاف الجداول ولون الفضاء الأسود وصوت البوم، وفقدان النهر للرعاة وأغنامهم، هذه المظاهر كلها المجسدة لكآبة الخريف تضيق لها روح الشاعرة، فتنتقل إلى الشتاء، حيث الانتقال في الزمان يحدث تغيراً في المكان، ولكن الكآبة تظل البطل المتفرد، فالثلج والأمطار وموت الزهور، وعراء الأشجار وغياب الطيور وعصف الرياح، ودقات الساعة في صمت الليل الطويل كلها مظاهر للكآبة، إلا أننا نستشعر بوادر التفاؤل في وصول عقربي الساعة إلى الإعلان عن فصل الربيع، لتصبح دقاتها نشيداً جميلاً، ولكن ما يعكر جمال هذا النشيد أن الربيع غير دائم، وحين تجد فكرة الموت طريقها إلى الظهور تتحول رموز الفرحة التي أثارتها الطبيعة في الربيع إلى رموز لإثارة الحزن وما كان جمالاً في الربيع يصبح أسى في الصيف.‏

أخيراً: إن هذه الثنائيات النفسية والاجتماعية والفكرية والفلسفية في شعر نازك الملائكة جعل شعرها يمثل حركة رائدة في حركة الشعر الحديث كما يمثل شاعرة حملت ثقافة عالية.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية