تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أنور دياب بين اللوحة والرسم للأطفال..تنويــع تقنـــي وتشــكيل رمــزي وخيالـي

ثقافـــــــة
الأحد 17-3-2013
 أديب مخزوم

يبدأ الفنان أنور دياب في تقنية تشكيل اللوحة، من منطلق التمرد والرفض لأسلوب الرسم التسجيلي الصريح، ويفتح امدية داخلية في فراغ السطح التصويري، بهاجس توليف العناصر في المساحة المرسومة بطريقة خيالية، وهو يمارس حريته في ابراز تداخلات الاشكال،

في وقت يستطيع فيه أن يحافظ على مساحات وحركات لونية مدروسة ومتزنة (عناصر المرأة والطبيعة والبيوت والأشكال النباتية وغيرها...) ويقدم أجواء بصرية من نوع آخر، على الأقل في تلافيه طغيان أي جو لوني خارج المناخ الضوئي، الذي اختبره في سنوات تجربته الطويلة، ما يؤكد قدرته في التعبير عن المناخ اللوني الدمشقي، القادم من تأملات الورود والزهور الممتدة في فسحات ومداخل و شرفات البيوت الدمشقية من الداخل والخارج معا. وهو في ذلك يعيد اكتشاف جمالية المشهد المعماري والريفي، الذي يبرز في أحيان كثيرة متداخلاً مع عناصر المرأة بصورة غرائبية مشحونة بالخيال والموسيقا والشعر.‏

مساحات مستوية ومجسمة‏

ومن خلال تجربة طويلة ومستمرة، كان أنور دياب في كل مرحله يبحث عن صياغات تشكيلية، تستفيد من المعطيات والجماليات والإشارات الحضارية، وتضفي على لوحاته عفوية وحيوية، في حركات الخطوط والألوان، ومن خلال الانتقال من المعالجات اللونية الشاعرية والشفافة في المائيات، إلى المعالجة الزيتية، التي تعتمد على تكثيف وتأنيق وتجسيم البنى التي تتداخل أحيانا مع المساحات الهندسية المسطحة، داخل المدى الذي تراه العين في إطار اللوحة.‏

وعلى الصعيد التشكيلي يعيد صياغة البيوت والقباب القديمة، ويجعلها تتداخل مع العناصر الإنسانية والنباتية والحيوانية من حصان وطير وما إلى ذلك. وهو في ذلك يبقى خاضعاً لسحر الهاجس التشكيلي الخيالي المركز، الذي ينطلق من كسر رتابة الصياغة الواقعية والجماليات الخارجية السائدة والمستهلكة.‏

ولا يبتعد في أعماله عن اختبارات الحداثة التشكيلية المعاصرة، التي حققت التواصل الثقافي بين الشرق والغرب، حيث يعيد مشهديته البصرية المستلهمة من فضاءات العمارة القديمة، وأشيائه المحببة مثل المرأة والعناصر النباتية والأزهار، ليصل إلى الإحساس البصري القابل للبوح بمشاعره وأحاسيسه العميقة، سواء انحصر داخل مساحة لونية من بعدين، أي مساحة مستوية، أو توسع ليستمد علاقات جديدة مع الفضاء في مساحات مجسمة ومعبّرة عن العمق أو البعد الثالث.‏

توازن وتوافق‏

وبمعنى أخر يقدم لوحات حديثة فيها الكثير من الأناقة والرزانة والهندسة التشكيلية، و يجسد بتدرجات اللون الشكل الإيضاحي المفهوم في مدلولاته البصرية المباشرة. وهكذا يصل إلى السكون والهدوء والصمت لأن موضوعاته وهواجسه الطفولية، تشكل فسحة طمأنينة وتفاؤل وتبدو بمثابة رمز لذاكرة المناخ المحلي واشارات الفولكلور (ولاسيما في اللباس التقليدي).‏

وينطلق في الغالب من هاجس معالجة عناصرالمرأة الرمز، ويجعل المساحات اللونية المعتمة تتداخل مع مساحات لونية مضاءة، وبذلك تتدرج الحالة اللونية، من تلك الباهتة أو القاتمة إلى أخرى، تغلب عليها الألوان المشرقة، وهو في ذلك يعمل على إظهار التوازن والتوافق بين البناء العقلاني والتكوين العاطفي، المتبدل والمقروء في لمسات وضربات اللون العفوي، والذي يخرج الأشكال من برودتها وقساوتها وينقلها إلى الخيالية المقروءة في مساحات لونية، تستجيب لهدوئه وانفعاله، لأحزانه وآلامه.وتحقق دلالات ومقاصد فنية بعيدة عن إغراءات وتوجهات اللوحة الاستهلاكية الصالونية.‏

وهو يهتم بإبراز تدرجات اللون والظل، ويصل الى حدود التتابع الرمزي الخيالي، فاللوحة بالنسبة إليه تبدو بمثابة محطة حوارية بين الماضي والحاضر، حيث يستعيد الكثير من الرموز التاريخية والأسطورية والشعبية، المقروءة في الأشكال الإنسانية والحيوانية والتراثية والأثرية المحّورة بتلقائية شاعرية، قائمة على ألوان هادئة ومتقاربة وغير صاخبة، للوصول إلى التأثيرات البصرية المطلوبة، وبالتالي النفاذ إلى أبجدية تشكيلية ناتجة عن اختبارات تقنية خاصة، تبحث عن إيقاعات خيالية ورمزية في آن واحد. ونرى في بعض لوحاته ما يشبه التشكيلات الهندسية المبنية على عناصر عاطفية، بمعنى أنه حين يعمل على تقطيع اللوحة إلى ما يشبه المسطحات الهندسية في خطوات تولييف عوالمه البانورامية الأسطورية، فإنه يذهب لإضفاء أجواء عفوية تتحقق بلمسات مبنية عل حساسية عاطفية،تتجاوز السياق البصري الساكن المقروء في الهندسية التشكيلية الصرفة. وهذا يعزز مسألة البحث عن أجواء مدروسة ومتوازنة وبعيدة عن العنف والانفعال اللوني، الموجود في لوحات أكثرية الفنانين المحدثين. وهكذا يعمل على إبراز شاعرية المساحة، وصفاء اللون أحياناً، وقد تخفف الكثافة التشكيلية من هذا الهاجس، الشيء الذي يضعنا أمام تجربة جدية في التعامل مع الرموز الحضارية وفي معالجة المادة اللونية وفي أسلوب أخراج اللوحة وصوغ المشاعر الهادئة.‏

الرسم التوضيحي الطفولي‏

وتجربة أنور دياب الطويلة في مجال الرسم الموجه للأطفال، تثير المشكلات المتعلقة بهذا الكنز الإبداعي،الذي لايزال دون رعاية جدية في مجمل الأقطار العربية، مقارنة مع البلدان الغربية والشرق الأقصى، على الرغم من وجود رسامين مبدعين ومخضرمين من أمثاله،متخصصين بتنشئة البراعم، انطلاقاً من محاولات كسر طوق هيمنة حكايات الأفلام الأجنبية على مشاعر الأطفال العرب، والعمل على تنمية نزعاتهم الابتكارية وتغذية شعور انتمائهم إلى البيئة المحلية والوطن.‏

فالرسم الذي يوضح دلالات القصة الطفولية في كتاب مدرسي أو مجلة أو مطبوعة،هو الأكثر صعوبة من الاستعانة الآلية بنتائج الخبرات التقنية الأوروبية في اللوحة التشكيلية الحديثة، التي تطل في أكثر معارضنا.‏

كما أن قلة أو ندرة العاملين في مجال الرسم الموجه إلى الأطفال، تؤكد هذه الحقيقة، من منطلق أن رسام الأطفال يحتاج على الأقل إلى موهبة وقدرة على التحكم بخط الرسم، في خطوات تجسيد الحركة الحية النابضة، التي تثير انتباه الطفل،وتعمل على تحريك مشاعره وأحاسيسه المرهفة والشفافة، وهذه الخصائص المرتبطة بموهبة أصيلة غير متوفرة عند عدد كبير من العاملين عندنا في مجال انتاج وعرض اللوحة الفنية التشكيلية.‏

فمن خلال رسوماته الموجهة للأطفال، كان أنور دياب وخلال مشواره الفني الطويل، يرسم بعفوية محببة قريبة من أحاسيسه ومشاعره الداخلية العميقة،وهو في ذلك كان يعمل لتفهم حساسيته وطريقته في تذوق المساحات المرسومة والملونة والمرافقة للنص القصصي،المستشف في أحيان كثيرة من عالم وهمي وخيالي وقريب من عوالم الطفل وأحلامه البريئة، فالطفل ينفعل داخلياً مع اللوحة ويصبح أكثر تفهماً للرسوم التي تعجبه وتثير انتباهه.‏

أنور دياب من مواليد دمشق عام 1939 عشق الفن منذ طفولته، وله مئات الرسومات التوضيحية الموجهة إلى الأطفال، وهو يشارك منذ سنوات طويلة في المعرض السنوي العام، ويسعى لإيجاد الحلول المناسبة، مراعياً الاحتفاظ بجوهر وخصائص التراث المعماري والشعبي والفولكلوري، لأنه هويته الوحيدة، التي يستطيع المجاهرة بها في سياق تشكيل لوحته الحديثة.‏

facebook.com/adib.makhzoum‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية