تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


رؤيا الموت في الشعر الميتافيزيقي

ملحق ثقافي
2012/2/21
عبد الكريم بدرخان:شعراء الميتافيزيقا مصطلح أطلقه الشاعر والناقد الإنكليزي صامويل جونسون «1709-1784» على مجموعة من الشعراء الإنكليز الذين برزوا خلال القرن السابع عشر. لم يكن هؤلاء الشعراء على

معرفةٍ وعلاقةٍ شخصية ببعضهم البعض، ولم يؤسسوا جمعيةً أو رابطة بينهم، لكن الصفات المشتركة بين قصائدهم، شكّلت حبلاً سرياً يربط بينهم جميعاً حتى أصبحنا ننظر إليهم كمدرسة واحدة اليوم.‏

يعتبر الشاعر جون دان «John Donne» «1572-1631» مؤسساً للمدرسة الميتافيزيقية، ثم تبعه عدد من الشعراء الذين تشابهوا معه في الأسلوب والأفكار منهم: جورج هربرت «1593-1633»، أندرو مارفيل «1621-1678»، هنري فوغان «1622-1695»، أبراهام كاولي «1618-1667».‏

من أهم خصائص الشعر الميتافيزيقي: البساطة في التعبير والابتعاد عن المحسنّات اللغوية، واستخدام المجازات الطريفة «wit» مثل تشبيه مارفيل الروحَ بقطرة الندى، بالإضافة إلى تركهم الموضوعاتِ الشعرية المستهلكة في العصر الإليزابيثي كموضوعات العشق والهجر وألم الفراق، وتوجههم إلى ما وراء الطبيعة.. إلى الموت.. إلى العالم الآخر، أما الحبُّ عندهم فهو حبٌّ روحاني يرتقي إلى درجة التصوّف.‏

تجدر الإشارة إلى أن الميتافيزيقا التي ميّزت قصائدهم، تختلف عن الميتافيزيقا التي نعرفها اليوم بالمعنى الفلسفي، لأن الأولى ميتافيزيقا دينية أو ميتافيزيقا لاهوتية، فهي تذكّرنا بميتافيزيقا العهد الجديد ولا سيما آخر أسفاره: رؤيا يوحنا «Apocalypse».‏

ومن الصعوبات التي تواجه القارئ العربي عند دراسة الشعر الميتافيزيقي، هي كونه مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالثقافة الدينية الأنجليكانية السائدة في إنكلترة خلال القرن السابع عشر.‏

رؤيا الموت عند دان‏

الموت هو الحدّ الذي ينتهي عنده ميدانُ المعرفة، ويبدأ من بعده فضاءُ الميتافيزيقا، قد يكون الموت أهمَّ دافع للإبداع، باعتباره السدَّ الذي يقف أمام غريزة حبِّ البقاء، ما يولّد رغبةً داخل الإنسان لإنجاز أعمالٍ إبداعية تبقى حيّة بعد الموت، وكثيراً ما يظهر الموت في الأدب وهو في حالة صراع مع الحياة، أو مع الحب. أما الموت عند دان فهو موضوع مستقل بحد ذاته لا تشوبه شائبة، موضوع يسيطر على عدة قصائد ولا سيما المعروفة باسم السونيتات الدينية «Holy Sonnets».‏

كان دان مسكوناً بالموت، مأخوذاً بأسراره، مقتنعاً بالحياة بعد الموت، ومعتبراً الموتَ عتبةً ضروريةً للوصول إلى المجد والخلود في ملكوت السماء، فلم يكن يخشاه، بل اعتبره حالةً مماثلة لحالة النوم، وطريقاً وحيداً للارتقاء إلى الخالق والاتحاد به. وكان دان - بإيمانه وحكمته العميقين- يعتقد أن بعثَ الناس بعد الموت، ودخولهم في حياة الخلود، سوف يقضي على الموت ذاته، أي أن الموتَ سوف يموت عندما لن يبقى له عمل.‏

وهنا لا بد لي من أن أنشر إحدى أشهر سونيتات دان الدينية، والتي تختصر رؤياه للموت:‏

«لا تكن فخوراً أيها الموت، وإن وصفكَ الناسُ‏

بالقويّ المرعب، فأنتَ لست كذلك‏

وهؤلاء الذين تظنُّ أنكَ تقضي عليهم‏

لا يموتون، لأنك لا تستطيع قتلهم أيها المسكين.‏

النومُ والراحةُ صورتان من صورك، وهما ممتعان‏

فمنكَ – إذن- سوف نجني متعةً أكبر،‏

وعندما تخطفُ أفضلَ رجالنا‏

فإنك تجلبُ الراحة لعظامهم وأرواحهم.‏

أنت عبدٌ للقدر، للمصادفة، للملوك، لليائسين،‏

وحيث يكون السُـمّ والحربُ والمرضُ تكون أنت،‏

إنّ السحرَ والخدرَ يمنحاننا متعةَ النوم أيضاً،‏

بل أفضل منك، فلماذا هذا الغرور؟‏

كلُّ ما في الأمر أننا ننام قليلاً، ثم نستيقظ بعدها إلى الأبد،‏

وعندئذٍ لن يكون ثمة موت، لأنك يا موتُ سوف تموت».‏

من تأثيرات دان‏

عندما ثار الشعراء مطلع القرن العشرين على الرومانسية التي سادت خلال القرن التاسع عشر، وضعوا «جون دان» قدوةً لهم، آخذين عنه ازدراءه للصور الجمالية التقليدية، واستخدامه لبعض المفردات العامية في سياق قصائده، وكان «ت. س. إليوت» و «وليم بتلر ييتس» من أهمَّ الشعراء الذين تأثروا بأسلوب دان وأفكاره، فأعادوها إلى الواجهة في النصف الأول من القرن العشرين.‏

أما في الشعر العربي فتظهر بصماتُ دان واضحةً في أهمّ قصيدةٍ عربية ناقشتْ موضوعَ الموت وتفلسفت فيه، أعني قصيدة «جدارية» للشاعر محمود درويش.‏

تظهر تأثيرات دان وزملائه الميتافيزيقيين عند درويش في تركيزه على موضوع الموت بحد ذاته، وفي استخدامه الكثير من المجازات الطريفة والمفردات العامية كقوله:‏

«أيها الموتُ‏

انتظرْ حتى أعدّ حقيبتي:‏

فرشاة أسناني، وصابوني وماكنة الحلاقة،‏

والكولونيا والثياب».‏

كذلك يبدو أن درويش متفقٌ مع دان في اعتباره أن الموت طريقُ الإنسان إلى الله، حسب المعتقد الديني الذي نؤمن به دون أن نفهمه، يقول درويش مخاطباً الموت:‏

«أنا وأنتَ على طريق الله‏

صوفيّان محكومان بالرؤيا ولا يريان».‏

إن أهم ما يميّز مقاربةَ دان ودرويش لموضوع الموت هي أنها مقاربةٌ عقلانية حكيمة، فهي ليست عاطفيةً كالتي تسود قصائد الحبّ التقليدية عندما يظهر الموت كملاذٍ وحيد من الفشل العاطفي في الحياة، وهي ليست مقاربةً عاطفيةً رثائيةً سواء كانت ترثي الذات أو الآخرين، بل هي مقاربةُ رجلٍ حكيم يخاطب الموتَ كصديق قديم، ويتفق معه على الرحلة الأخيرة، دون خوفٍ منه بل بثقةٍ واطمئنانٍ يصلان إلى حدّ المبالغة واللا مبالاة، وكأنهما بهذا الاستعلاء على الموت والاستهتار بالفجيعة يغطّيان إحساسهما العميق بالرعب منه، ويخفيان شعورهما بالفناء والتلاشي الذي يأكلهما من الداخل.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية