تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


لؤلؤة ضائعة

ملحق ثقافي
2012/2/21
صبري رسول:ارتمى على سريره منهاراً، أغمض عينيه بقوة، ليوقف الزمن الهارب من ذاكرته، ويبعد ألواناً، رسمته غربتُه الداخلية بوحشية، ليس له حيلة في صنعها.

الغربة، المرأة، والفشل، عناوين بارزة تهندس أحلامه، كلَّما حاول التخلص من أحدها، كان الآخر ينتظره فاغراً فمه.‏

هربت من الفشل لأسجل نجاحاً لم يكن موجوداً، فإذا به يصبح سمة لي في أداء وظيفتي، فأفشل في الغربة كفشلي مع اللؤلؤة الضائعة، المرأة بكل ثقلها في القلب، تلاحقني، فيحرقني شوقها، وهي تذوب مع الخريف، كورقة تتماهى مع الريح.‏

في ذات شتاءٍ، وبعد دقاتٍ متكررة، فتحت البابَ لأجد امرأةً من الثلج، واقفةً بملامحها الشبيهة بغيوم الثلج. هل نسيَ النّاس تمثالهم الثلجي؟ هل أصابها البرد؟ كانت قطرات الماء الذائبة تسيل منها. دعوتها إلى الدّخول، فدخلت، لكنها لم تتكلّم. سهرة صامتة كصمت شتائنا. هل سأصبح ضيفاً على صدرها الدافئ؟ امرأة رشيقة القوام، عيونها مكحّلة بالبرد، جسمها يضجّ أنوثةً، شعرها من حزن الليل.‏

كانت الرِّحلة غامضة، فتاهَ الاستبصارُ في عمق الفوضى. صدرُها عَالَمٌ بِكرٌ من الدَّهشة غير المكتشفة، عالَمٌ يتوق إلى سفرٍ لانهائيٍّ من التمرّد، أخذتني الرحلةٌ إلى متاهاتٍ شيّقةٍ، اكتشفتُ جزراً ووهاداً ما وطِئَها أحدٌ، توغّلتُ إلى حيثُ أخطأ آدم.‏

على الشّرفة الشّرقية، كانت طقوسٌ مجوسية، تهندس قامة الرغبة الثائرة، ويشهد الثلج على التسجيلاتِ الجنونية والأشكال المرتسمة في قاع الفنجان، همساتها تراكمت في القاع، ثمَّ صبّت الجرعة في فمي. يشهد البردُ أنّ جنون الطّفولة مازال ينبض في جوانح خامدة. طفولتي علّمت أمي الحكمة والصَّبر، وعلّمت أزقة قريتي كيف تحنُّ لأرجل حافية، قاست مسافات البيادر بخطواتها الصغيرة. كمشةٌ واحدة من القمح الذّهبي كافية لترسمَ الخطواتُ الحافيةُ وجهَ الفرحِ على الأزقة كي تصلَ إلى بقالة قمرية، فتملأ الجيوبَ بالهدايا والألعاب.‏

عرفت أنِّي كنت محظوظاً – ربما للمرة الأولى في حياتي، لأن البيادر أغدقت على جيوبي كثيراً، ولؤلؤتي أغدقت على شفتي حتى أصابهما الجنون، جنون القبلة والقهوة والكلام الملائكي، وسكن فينا الليل الكاوي، فاكتوينا حتى الثَّمالة المثلى. والآن أصبحت طريد الغربة والمرأة والفشل.‏

جاءتْ. قلت لنفسي وأنا أسمع هسيساً لمتغيرات انعكاس الضَّوء الخافت على الجدار المقابل. دخلت بفستانٍ يفصح عن تفاصيل الأنثى المختبئة عن العيون منذ الخطيئة الخالدة الأولى، داخل فستانها كان جسد الثَّلج والبحر يتمايل بهدوء مثير. أنوثة صارخة تخبئ فصول السنة في مياسة القدّ، تفيض عبر شفافية اللون، اقتربتْ، هديلُ ابتسامتها نسيجٌ من الرّغبة في غليانها الهائج، في ظلال رموشها سفنٌ حائرة، أرساها الخوف، والقلق، والتَّوق إلى الوضوح. تقدمت نحوها، ينابيع من النَّحل تحكُّ جسمي، ثورة النَّحل تفجرت في داخلي، حملتها بين يدي، لمسها جمرة نارٍ، كانت هناك في أقصى المكان، تتَّقد جمرةً، تقذف آهاتٍ كتمتها أيامها عن الولادة. تفجَّرت ينابيع الرّوح والجسد، الينابيع الخالدة تولَد مرةً وتموت ألف مرة.‏

السَّاعة الجداريَّة كانت تومِئُ برحيلِ اللَّيل، عندما طلبت مني قراءة القصيدة لها للمرة الثَّالثة، فوقفتُ أمامي بذاتِ الفستان، لامسَ صدرُها صدري، وعيونُها تخطفُ الكلماتِ من شفتي، وكلماتي تترجم جروحاتي إلى أغنية باسمها.‏

اعتقلَتْنَا الغفوةُ، سقط كلٌّ منا طريح التَّعب، الغفوةُ سلطانٌ مسلَّطٌ على النّفوس القلِقة في بحثها عن لحظة التّجلي المختفية عن الإدراك الإنساني. أصبحْتُ متلاشياً في عمق الغفوة إلى الصَّباح الأبيض. اختفَتْ. بحثْتُ عنها في الأمكنة الواسعة والضَّيقة، لم أجد ما يُهدِّئ قلَقي. نظرتُ عبر النّافذة إلى الطَّبيعة التي أصبحتْ ندفاً من البياض البارد. لمحت على البلور، حروفاً ضبابية كتبتْهَا بسبابتِهَا قبل الرَّحيل: احرقْ أحزمةَ الخريف، لتحترقَ فوضاك معها، وابحثْ عن ربيعك الضَّائع في بريق الثَّلج. قلتُ: لكنني أعيشُ فصلاً واحداً منذ مئات السِّنين، كيف أجد فصل الألوان على ثوب الثلج؟‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية