تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


المعول والذاكرة

ملحق ثقافي
2012/2/21
قصة: يونس محمود يونس:ضربات المعول التي انهمرت على قبره، أيقظت ذاكرته من سباتها العميق، إذ أنّ دهراً مضى وانقضى من دون أن يعرف مكانه أحد، ومروج الأرض امتصت كل خلايا جسده.

لم يبق منه سوى هيكل من العظام، ولولا اسمه العظيم وسيرته العظيمة لما أدركه خصومه من أجل مواجهة جديدة، ولما اضطرته هذه المواجهة إلى تذكر جيشه الرابض أمام خيمته العظيمة.‏

إنّ صورة الجيش وحدها تكفلت بإعادة الطمأنينة إلى عظامه، وها هي ذاكرته تعرض له أجمل انتصاراته، وصهيل الخيول كأنها تناديه. ما يعني أنّ عهده بمرافقيه وقادة جيشه لم يزل على حاله.‏

وكما لو أنه في خيمته بين الجواري والغلمان. وقف في المكان الذي اعتاد الوقوف فيه ليلقي نظرة على قادته الرابضين على خيولهم. فرآهم وألقى تحيته عليهم. كما رأى صفوف الخيالة الأشداء، ومن بعدهم رأى الجنود المشاة بحرابهم وسهامهم، وإذ رآهم على تلك الصورة المُرْضية. قال يسألهم:‏

ـ هل سمعتم؟‏

فأجابوه بصوت واحد:‏

ـ نعم يا سيدنا. لقد سمعنا.‏

هكذا جاءه الجواب قويا هادراً كالرعد. فاطمأنّ المحارب العظيم إلى أنّ أحداً لن يجرؤ على الاقتراب منه، وهذا ما جعله يعود إلى فراشه ليرقد من جديد. لكنه وقبل أن يرقد تماماً، سأل الحسناء التي تقدم له الشراب:‏

ـ هل الطقس بارد في الخارج؟‏

فأجابته الحسناء بقولها:‏

ـ نعم. الطقس بارد سيدي.‏

ـ إذن هاتِ كأساً من النبيذ.‏

كان مطمئناً إلى أنه سيشرب النبيذ وينام. غير أنّ ضربات المعول عادت واستأثرت بسمعه من جديد. فنهض وسأل قادته مرة أخرى:‏

ـ ألا تظنون معي أنّ هناك من يعلن الحرب علينا؟‏

فأجابوه كما في المرة الأولى:‏

ـ ما تقوله صحيح يا سيدنا.‏

ـ إذن هي الحرب!‏

ـ أجل يا سيدنا.‏

ـ وماذا تنتظرون؟‏

ـ ننتظر خروجك إلينا.‏

ـ أخرجوني أيها الحمقى.‏

ـ لا نستطيع.‏

ـ كيف لا تستطيعون؟‏

ـ لأننا لا نعرف مكانك!؟ دهر مضى ولا أحد يعرف أين أنت. الذين شيعوك إلى قبرك أوصيتنا بقتلتهم كي لا يفضحوا سرك الأخير.‏

ـ وقتلتموهم؟‏

ـ نعم يا سيدنا.‏

تملّك المحارب القديم حزن شديد. لأنّ ضربات المعول لم تتوقف، والمؤامرات كأنها عادت إلى محيطه من حيث توقفت. ما يعني أنّ هناك من يرغبون في الانتقام منه.‏

«لا شك في ذلك»‏

هذا ما قاله لنفسه وهو يتذكر صهيل الخيول، وصليل السيوف، وصراخ القتلى، وعويل الخائفين المذعورين. لقد تذكر الكثير مما فعله عندما كان محارباً يفني الجيوش، ويستبيح المدن، ويخرب الأرياف.‏

لقد فعل كل ما بوسعه. حرب بعد حرب، وانتقام بعد انتقام. كأنه خُلق ليحارب، وها هي السنوات تمضي مثل سهم طائش. أدرك ذلك عندما رأى نهايته تقترب، وحينها قرر الانسحاب من هذه الدنيا. لكنه وفي اللحظة الأخيرة، أمر قادته بقتل كل من يرافقه إلى مثواه الأخير.‏

ـ اللعنة!‏

استحضر المحارب القديم كل غضبه على هؤلاء المتآمرين الجدد، وإذا كان صحيحاً أنّ روحه لم تهلك، وهي ترى كل شيء. فقد استنجد برجاله هذه المرة أيضاً. إذ قال لهم:‏

ـ إنني أراكم أيها الرجال. فلِمَ لا تتحركون؟‏

أجابوه بصوت واحد:‏

ـ نحن لا نراك.‏

فقال متهكماً:‏

ـ أنتم لا ترونني إذن!؟‏

قال ذلك واتكأ على مرفقه ليفكر هذه المرة في كل الاحتمالات، إذ اعتقد أنّ القدر يخبئ له مواجهة أكيدة. ذلك أنّ سيرته وأفعاله في حياته لم تكن اختياراً كما قد يظن البعض، ورأيه وشريعته لم تكن مطلقة ونافذة أيضاً، وكيف تكون مطلقة وهناك من يرغب ويشرّع في الجهة المقابلة، وحتى الشرائع المقدسة تُخرق عادة بشرائع مقدسة أيضاً. هذه أفعال البشر، وهذا تاريخهم.‏

لولا ذلك ما الذي جاء بهؤلاء العابثين؟ وماذا جاؤوا يفعلون بمعاولهم؟ مثل هذا الاعتداء الصارخ لم يكن مألوفاً في حياته. فما الذي تغير؟ وماذا لو علم هؤلاء المجانين أنه هو من يرقد هنا؟‏

إذا كانوا لا يعلمون فالأمر مُهين تماماً، وإذا كانوا يعلمون فهذا يعني أنّ المؤامرة منسوجة بعناية، لأنّ ضربات المعول هذه لا يقوم بها إلا من هم أشد بأساً وعداوة.‏

ساعة من الزمن والعمل جار دون توقف، ثم يصل الضوء إلى عظام صدره، وها هو واحد يضحك، ثم يقول آخر متشفياً:‏

ـ هذا هو. لقد وجدناه.‏

شعر المحارب العظيم بالضعف والإهانة لأنّ الأصابع الطويلة استمرت تنزح التراب من حوله برفق، وها هي جمجمته تظهر. فيهللون، ثم يصرح أحدهم:‏

ـ لا تحركوها ولا تعبثوا بها. إنّ هذه الجمجمة هي الأكثر قيمة حتى اليوم، وما سنحصل عليه بعد هذا الجهد لا يقدر بثمن. مجرد عرضها في مراكز البحوث سيدرّ علينا الكثير من المال والشهرة.‏

ثم قال وصوته يرتجف طرباً:‏

ـ هذه جمجمة أشهر رجل في الدنيا. هل تعلمون ذلك؟‏

وبعد لحظة أصدر أوامره الجديدة:‏

ـ استخدموا الفراشي، وكونوا حذرين، لا تحركوا أية عظمة، والكاميرا.. أين الكاميرا؟ الآن يجب أن نبدأ التصوير.‏

ـ الكاميرا جاهزة. فهل ترغب في صورة لك مع هذه الجمجمة؟‏

ـ سأنزل حتماً. لكن ليس قبل أن يخرج هؤلاء العمال. بعد قليل ستظهر كل عظامه، وعندئذ ندخل في المرحلة الأخيرة.‏

إزاء هذه المقابلة التي لا قِبل للمحارب القديم بها، وقد اعتبرها وحشية جديدة على كل حال. بل هي أشد وحشية من كل ما قام به في حياته ـ إزاء ذلك ـ قرر معاقبة هؤلاء الغزاة، وبانتظار اللحظة المناسبة. وقف أمام جنده وقال:‏

ـ مهما كانوا، ومن أي جنس كانوا. سأجعلهم يدفعون ثمن وقاحتهم. هل تسمعون ما أقول؟‏

فأجابوه بصوت هادر كالرعد:‏

ـ نسمعك بكل وضوح يا سيدنا.‏

ـ وسترونني عندما أظهر أمامكم؟‏

ـ بكل تأكيد يا سيدنا.‏

عندئذ وبانتظار اللحظة المناسبة، طلب من الحسناء التي تقدم له الشراب قدحاً آخر من النبيذ، إذ كان معتاداً على تناول النبيذ في مثل هذه الأوقات العصيبة. فلما ناولته الحسناء القدح، شربه دفعة واحدة، ثم استلقى على سريره وهو مطمئن إلى نجاح خطته التي أبقاها سرية كما هي عادته دائماً.‏

لكنه وفي تلك اللحظة ذاتها، كأنه سمع من يقول له:‏

هيهات.. هيهات..‏

لقد اخترق الصوت كيانه كالرمح. فلبد في مكانه من شدة الألم، وكم كان قاسياً هذا الألم..‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية