تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


سلطة العناوين والتفكير بالمستحيل

ملحق ثقافي
2012/2/21
د. علي محمد سليمان:هل تحول العنوان إلى نص مستقل عن الكتاب يخضع في استقلاليته هذه لعوامل دلالية وتسويقية تختلف عن بنية النص الأساس؟

من المؤكد أن العنوان قد خضع لتحويرات وتطورات في وظائفه ودلالاته وطبيعة علاقته بنص الكتاب عبر مراحل متعددة من تاريخ تطور الكتاب وعلاقته بالفضاء العام. وتبدو اللحظة الفارقة في تلك المراحل متوضعة بشكل جلي في تلك المرحلة التي تحول فيها الكتاب إلى سلعة متداولة بالمعنيين الثقافي والاقتصادي. إنها إذاً لحظة حديثة بلا شك خرج فيها الكتاب من أطر المقدس والنخبوي إلى أطر الاجتماعي والاقتصادي.‏

وفي هذا السياق تحول العنوان إلى عنصر تواصل على درجة كبيرة من الأهمية. فبالإضافة إلى الوظيفة التواصلية بين النص والقارئ، حيث يقوم العنوان بمهمة إعلان محتوى الكتاب وموضوعه، فإن العنوان تحول مع تطور أساليب التسويق للكتاب كسلعة ثقافية واقتصادية إلى ما يشبه رأسمال افتراضي يستثمره كل من الكاتب والناشر لتسويق الكتاب وفرضه بشكل ما على آليات التداول والإعلان السائدة. وفي هذا السياق يصبح‏

عنواناً معروفاً مصدراً لتوالد صياغات وتحويرات وعناوين جديدة تعيد إنتاج شعبية العنوان الأصلي وتستفيد من الرأسمال الرمزي الذي تحتويه من حيث قدرتها على الترويج والتسويق. فبمجرد شيوع أو انتشار أو نجاح كتاب ما يتحول عنوانه إلى قيمة اقتصادية مستقلة بحد ذاتها. وهكذا، فإن ظاهرة إعادة إنتاج عناوين الكتب بشكل مستمر من قبل الكتاب والناشرين ظاهرة يمكن فهمها وتحليلها في سياق ضرورات التسويق والترويج.‏

في عام 1776 ظهر الكتاب الشهير للمؤرخ إدوارد غيبون «تاريخ تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية».‏

تحول عنوان هذا الكتاب في القرنين التاليين من صدوره إلى مصدر لتحويرات ولصياغات عناوين جديدة كانت جميعها تنويعات على عنوانه الذي تحول إلى ما يشبه الأيقونة. ففي عملية محاكاة لغوية لهذا العنوان، ظهرت كتب عديدة عن تاريخ تراجع وسقوط إمبراطوريات أخرى، اليابانية، البريطانية، العثمانية والأمريكية. ومازالت بادئة «تاريخ تراجع وسقوط» لازمة حضارة على قائمة طويلة من الكتب التي يتوالى صدورها حتى اليوم مع الاجتهاد والتنويع المستمر في أساليب التحوير والمحاكاة، فقد أضيفت كلمات، علامات ترقيم وتغير ترتيب الكلمات في بعض الأحيان، لكن العنوان في بلاغته اللغوية بقي أسيراً لنجاح وشيوع العنوان الأصلي لكتاب إدوارد غيبون.‏

يبرر الناشرون عادة هذه الظاهرة بحرصهم على توظيف العنوان بشكل دلالي واضح. يقول إيمون دولان مدير مؤسسة بنكوان البريطانية للنشر : «على العنوان أن ينقل بشكل واضح ومباشر محتوى وموضوع الكتاب، ولهذا فنحن ميالون دائما لاستخدام عناوين مألوفة». لكن دولان يؤكد في الوقت نفسه على عامل آخر، ولعل هذا ما يكشف أن تبرير الناشرين ليس دائماً يقع في الهدف الدلالي للعنوان. فهو يضيف: «إن العنوان يؤدي وظيفة على المستوى العاطفي والشعوري، حيث أنه يجعل القارئ يتوقف ليتأمل أو يستدعي ذكرى أو انفعالاً ما».‏

وفي الحقيقة، لا يستطيع الناشرون إنكار واقع أن العنوان قد أصبح أحد الأدوات الهامة فيما أصبح يعرف بصناعة القوائم الأكثر مبيعاً. ففي دراسات عديدة أظهر المهتمون بصناعة الكتاب في العالم أن العنوان قد أصبح نصاً مستقلاً عن جسد الكتاب في تقاليد النشر المعاصرة. ففي العقدين الأخيرين تكرست عناوين وانتشرت بشكل يفوق ما حققته محتويات الكتب ذاتها. بمعنى أن العناوين قد استطاعت في حالات عديدة أن تحقق نجاحات كبيرة بمعزل عن محتويات الكتب التي تصدرتها.‏

في عام 1992 أصدر فرانسيس فوكاياما كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» تاركاً لعنوانه هذا كل دلالات المفارقة والتناقض، فكيف للتاريخ أن ينتهي؟! وخلال وقت قصير بعد نجاح عنوان فوكاياما وانتشاره أغرق الناشرون السوق بكتب النهايات. كتب كثيرة ظهرت في العديد من المجالات المعرفية كلها تعيد إنتاج وتوظيف عبارة النهاية في ذلك العنوان. تعددت عناوين النهايات، نهاية الفرد، نهاية الأمبراطورية الأمريكية، نهاية الرواية، نهاية السرديات الكبرى، وغيرها.. وفي آخر توظيف لعنوان فوكوياما، أصدر روبرت كيغن كتاباً أعاد فيه صياغة العنوان الشهير بشكل عكسي، فقد ظهر كتابه في عام 2008 تحت عنوان «عودة التاريخ ونهاية الأحلام».‏

لا بد من التساؤل هنا، ما الذي ينتج حقاً الأطر التي تتحكم بالحساسية الثقافية؟ هل هو المضمون والمحتوى في الكتب التي نقرأها، أم أنه ذلك الولع بالعنوان كسلطة تحدد حركة الثقافة وتتحكم بالمخيلة العامة؟ ما الذي أنتج على سبيل المثال ثقافة النهايات التي سادت في العقد الأخير من القرن الماضي؟ هل هو واقع تفاعلت معه قدراتنا على المحاكمة والجدل الفكري، أم أنها سلطة العنوان الآسرة التي حولت البلاغة اللغوية في عنوان كتاب ما إلى سلطة رمزية وإلى رأسمال تحكم بتوجهات سوق النشر؟‏

من المؤكد أن العنوان يتجاوز في طبيعته ووظيفته المستوى الدلالي، فهو بمجرد وجوده المعلن على غلاف الكتاب يشكل سلطة يخضع لها القارئ بشكل من الأشكال وتتحكم بعملية التواصل بين هذا القارئ وبين الكتاب باعتباره إنتاجاً ثقافياً وسلعة اقتصادية في الوقت نفسه. لكن المشكلة تتجلى في أن الناشرين والكتاب على حد سواء قد أصبحوا يبالغون في استثمار سلطة العنوان على القارئ، بحيث تحول العنوان إلى رأسمال يستثمره هؤلاء دون أي ضوابط. وفي هذا السياق، يبدو أن أهمية محتوى الكتاب قد بدأت تتراجع لصالح العنوان!‏

هل يشير هذا الواقع الثقافي والفكري، والذي أشار إليه جاري غوتينغ في كتابه الجديد «التفكير بالمستحيل» إلى حالة وصفها البعض بحالة اغتراب النظرية عن الواقع؟ ولكن متى كانت النظرية غير مغتربة عن الواقع؟! هذا هو السؤال المعاكس الذي تعيد الجهود النظرية المعاصرة طرحه على الدوام. وكأن الذهنية المعاصرة قد دخلت في مرحلة مستعصية من الشك ورفض المنظومات الفكرية؛ بحيث لم يعد بالإمكان ابتكار منهجيات مستقرة أو متكاملة تنطلق من رؤية أو وعي متكامل بالعالم.‏

لقد فرضت آلية العمل هذه تقاليد جديدة على الأديب/المؤلف ودفعته بشكل قسري إلى التماهي مع ثقافة التسويق والإعلان عن الذات. ففي سوق تنافسي لا بد للأديب اليوم أن يبحث بشكل محموم عن كل ما من شأنه أن يضاعف من تواجد اسمه على الشبكة العنكبوتية، وأن يكافح من أجل وجوده الإلكتروني الدائم. والخطأ القاتل الذي يهدد أي كاتب اليوم هو أن يتقاعس عن ممارسة الضجيج والتوقف ولو للحظة عن الحضور الكمي في أكبر مساحة ممكنة من التداول العام. فمحركات البحث على الشبكة العنكبوتية لا تنتظر أحداً، وأي لحظة هدوء أو صمت أو عزلة قد تكلف الأديب ثمناً باهظاً عندما تتجاهله أدوات الرصد والإحصاء الباحثة عن أسماء لتغذية أسواق النشر والتوزيع.‏

لقد أدى كل ذلك إلى نشوء الكاتب النجم بالمعنى المعاصر. ذلك أن المؤسسات المعنية قد طورت وسائل لتصنيع الأسماء الأدبية وتسويقها في وسائل الإعلام بهدف إنتاج ذلك الحضور الكمي في فضاء التداول العام في حركة تنافسية شرسة تشارك فيها الصحافة الثقافية ومؤسسات الجوائز الأدبية الكبرى.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية