تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


إعادة بناء الواقع والأسطورة سينمائياً

ملحق ثقافي
2012/2/21
محمد عبيدو:السينمائي اليوناني ثيو أنجيلوبولوس، الفائز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1998 عن فيلمه «الأبدية ويوم»،

من أكثر المخرجين اليونانيين ذوي الرؤى العميقة الخالصة شهرة وتأثيراً. وكان ثيودور أنجيلوبولوس قد توفي يوم الثلاثاء، 24 كانون الثاني الماضي، بعد ساعاتٍ معدودة من إصابته في حادثٍ مروري في أثينا، أثناء عملية تصوير فيلمه الجديد «البحر الأخر»، ويدور حول الأزمة المالية التي تعصف باليونان.. في بداية كتابه «عالم ثيو أنجيلوبولوس السينمائي،‏‏

‏‏

براءة التحديقة الأولى» يقول أمين صالح: «ثيو أنجيلوبولوس، المخرج اليوناني، صوت فريد في عالم السينما، ويعد واحداً من رموز السينما الفنية الحديثة، ومن أكثر السينمائيين أهمية وتميزاً، وإثارةً للجدل أيضاً، في السينما العالمية المعاصرة. إنه ينتسب إلى نخبة من المخرجين القلائل الذين ينطبق عليهم التعريف الكلاسيكي لـمبدع الفيلم أو المخرج المؤلف، إذ كل لقطة، من كل مشهد، من أي فيلم حققه، تعبّر عن رؤيته الفنية والفكرية، وتعكس شخصيته الفنية، على نحو يتعذّر محوها أو إزالتها. إن نظرة عجلى إلى أي فيلم له، وفي أي موضع يتم اختياره من مسار الفيلم، ستكون كافية للكشف عن هوية المبدع الذي حقق هذا العمل الفني».‏‏

وقد اكتشف المخرج اليوناني المولود في 27 نيسان 1935، انحيازه للسينما في أواخر عقد الستينات، بعد أن هجر مهنة المحاماة، وكتب الشعر والقصة في بداية حياته ثم يشد الرحال إلى فرنسا بغرض الدراسة العليا للأدب في السوربون.. واستطاع أن ينضم، في هذه المدينة، إلى معهد للسينما IDHEC، ثم قرر العودة إلى بلده اليونان، والتفرغ للصحافة. وكان يعمل ناقداً سينمائياً في الصحيفة اليومية اليسارية «ديموقراتي آلاغي». وعندما وقع الانقلاب العسكري في اليونان عام 1967، أغلقت الصحيفة. فانتقل من الصحافة إلى السينما.‏‏

‏‏

كان فيلمه الروائي الأول «إعادة الإعمار» 1970، حول عامل مهاجر يوناني يعود من ألمانيا، وقد قتل بيده زوجته وعشيقها. وواضح على الفور أن المخرج لم يكن مركزاً اهتمامه على قصة الجريمة بقدر تركيزه على الآثار الأيديولوجية، الفردية والجماعية من خلال التحقيق في القتل.‏‏

ظهر انجيلوبولوس بعد ذلك على الساحة الدولية مع الثلاثية التاريخية المثيرة للإعجاب: «أيام 36» «1972»، و الممثلون الجوالون «1975»، والصيادون «1977». ويعتبر النقاد هذه الأفلام بأنها الأهم في تاريخ السينما اليونانية، فهي دراسات تأملية طويلة وعميقة في التاريخ اليوناني الحديث. وصورت بكاميرا ارفانيتس جيورجوس، المصور السينمائي الذي عمل في غالبية أفلام انجيلوبولوس،.‏‏

في «أيام 36»، انطلاقاً من أحداث واقعية، نتابع قصة رجل تم القبض عليه بتهمة قتل زعيم نقابي. احتجاجاً ومن أجل إثبات براءته، يأخذ رهينة في زنزانته، ويهدد بقتله وقتل نفسه، ما لم يتم الإفراج عنه. الفيلم يعرض بمهارة إدانة النظام العسكري في تصويره لعدم الكفاءة الرسمية، وحقيقة أن السجناء بقيت أحوالهم بعيدة عن الأنظار لوقت طويل.‏‏

فيلمه «الممثلون الجوالون»، قدّم المعالجة السينمائية الأولى للحرب الأهلية اليونانية «1944- 1950» من وجهة نظر اليسار. وهو عن فرقة من الممثلين قتلوا في اليونان عام 1949يقدمها الفيلم عبر التاريخ السياسي اليوناني والتواريخ الشخصية الخاصة بهم. خلال أربع ساعات، يتابع الفيلم مجموعة من الممثلين عبر الجبال الثلجية في شمال اليونان وهم يتواصلوا مع مقاتلي حرب العصابات في أنحاء البلاد. في التحقيقات اللاحقة، كل عضو من أعضاء المجموعة، فضلاً عن الفلاحين والعمال، يتحدث عن تجربته في الحرب الأهلية عبر السنوات التي أعقبت ذلك. سنوات دامية بالرصاص في ظلال القمع، ويتناول الفيلم الأيام الأخيرة من الديكتاتورية، في بداية الحرب العالمية الثانية، والاحتلال الألماني، والتحرير ووصول الإنكليز والأميركيين، والحرب الأهلية. ويمضي بنسج تاريخ اليونان السياسي المنسي وحياة الممثلين معاً. على طول هذه الرحلة يكشف الفيلم تفاصيل ذلك باستخدام الحلم والذاكرة والخيال، ورمزاً قوياً للقتيل كمتهم صامت..‏‏

ويقول انجيلو بولوس عن فيلمه «الصيادون»: يعكس كيف يمكن لرجل من جيلي يرى التاريخ اليوناني، وهو التاريخ الذي يمزج باستمرار سنوات من حياتي الخاصة. فهو عبارة عن دراسة للضمير التاريخي للبرجوازية اليونانية. في اليونان الطبقة الحاكمة تخشى من التاريخ، ولهذا السبب، تخفي ذلك. «الصيادون» يبدأ من هذا المنطلق.‏‏

و أنجز انجيلو بولوس في الثمانينات أشرطة فيلمية تميل للتأمل الفلسفي والإنساني، كما هو شأن فيلمه ألكسندر العظيم «1980» الذي فاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي لعام 1980، وفيلمه «رحلة إلى سيثيرا - 1984»، الذي حصل على جائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان، في «رحلة إلى سيثيرا» الرحلة حقاً هي إعادة صياغة لأسطورة عودة أوديسيوس وفقاً للأسطورة التي سبقت هوميروس. نسخة مشابهة لدانتي، هناك إصدار ما قبل هومري أن أوديسيوس أبحر مرة أخرى بعد الوصول إلى إيثاكا. بحيث يصبح الفيلم أقرب إلى ترك الوطن من العودة إليه. رجل من الذين قاتلوا مع الشيوعيين خلال الحرب الأهلية يعود إلى اليونان بعد المنفى أكثر من 30 عاماً في الاتحاد السوفياتي. إنه يحاول التوصل إلى تفاهم مع بلده وزوجته وعائلته، وهم بالكاد يعرفونه. ويجد أن الأمور ليست كما كان يأمل أن يجدها.‏‏

وفيلمه النحال «1986»، سبيروس «مارسيلو ماستروياني» مدرس متقاعد كئيب، ينفصل عن زوجته ويشرع في مهنة آبائه التقليدية بتربية النحل. ويبدأ رحلته السنوية مع النحل للحصول على العسل من مناطق مختلفة من اليونان. يجد سبيروس نفسه عبر رحلته غير المحددة مبعداً عن عالم عصري غريب، حيث أصبح جيله من مخلفات التاريخ. يقل في شاحنته من الطريق فتاة ريفية شابة تم التخلي عنها للتو وليس لها أحد. سبيروس يحاول إعادة الاتصال مع الواقع الإنساني عبر علاقته مع الفتاة، ليتراجع نحو مزيد من العزلة والرغبة في الموت.‏‏

«النحال» صورة محبة، وسوداوية عميقة من العزلة، والتفكك والفرقة، والتقادم. باستخدام الصور المتناقضة من الاتحاد والانفصال، وهو بمثابة وقائع لا تمحى عن تدمير التقاليد والأسرة، والتآكل الثقافي في المجتمع اليوناني المعاصر، والخراب في النفس البشرية.‏‏

«منظر في السديم – 1988»، الذي فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان فينيسيا السينمائي. نرى فتاة عمرها 14 عاماً وشقيقها الصغير يشرعان في رحلة للعثور على والدهما غير المعروف، الذي يعتقدان أنه في ألمانيا. يؤلف الطفلان رسائل إلى والدهما الغائب في أفكارهما، وينتظرا رده عبر أحلامهما في الواقع، هو مغامرة وجودية، رحلة نحو الشيء بعيد المنال.‏‏

منظر في السديم حكاية مؤثرة، غنائية، وتعبير الإنسان عن النضال من أجل الهوية والاتصال.‏‏

وبعدها عاد ليصنع عملاً جميلاً من خلال «تحديقة يوليسيس – 1995»، الحاصل على جائزة لجنة التحكيم في كان. يقدم رؤيا هوميروسية معاصرة لتاريخ حديث لكنه غارق في ضباب ملغز مثل ضباب الأسطورة الإغريقية القديمة. لعب دور البطولة فيه الممثل هارفي كيتل صانع أفلام يعود إلى اليونان من المنفى، بعد أن قضي خمساً وثلاثين سنة من النفي في الولايات المتحدة ليشهد في مدينته الأم العرض الافتتاحي لفيلمه الأخير، ويسعى خلف بعض بكرات الأفلام المفقودة التي أنجزها الأَخَوان ماناكياس وهما اثنان من صانعي الأفلام اليونانية المشهورين في عهد الفيلم الصامت.‏‏

الأبدية ويوم واحد «1998» هو تأمل فلسفي حول موت الكاتب، الذي تضطلع به برونو غانز، وأفكاره عن الفن والعائلة والموت. انجيلوبولوس ينفذ عملية الانتقال بين الحاضر والماضي ببراعة، ينحدر بسهولة بين الواقع والخيال والحنين. في الخلود ويوم واحد، يخلق انجيلوبولوس استعارة بصرية عن عزلة الروح، المنفى.. التوق إلى استعادة ماض لا يمكن تعويضه.‏‏

ويعود مرة أخرى، في فيلم «غبار الزمن»، الذي جسّد ويليام دافو فيه دور مخرج أمريكي يقوم بتصوير فيلم عن والديه، اليونانيين. وساهم في الفيلم، إلى جانب دافو، آيرين جاكوب وميشيل بيكولي. واشترك في كتابة السيناريو تونينو غيرا، مثال الحب العميق الذي كان يكنه السينمائي اليوناني لإيطاليا، حيث كان يتم إنتاج أغلب أفلامه بالاشتراك مع إذاعة وتلفزيون إيطاليا «راي».‏‏

ويسرد أنجيلوبولوس عبر فيلم «ثلاثية المرج الباكي» «2004» 30 سنة من التاريخ اليوناني المعاصر، وهو ترجمة حية للتاريخ بأسلوب بصري مدهش.‏‏

وفي الختام نعود لما كتبه أمين صالح في كتابه «عالم أنجيلوبولوس السينمائي»: «في السبعينات انبثق هذا المخرج كواحد من أكثر الأصوات أصالة وجدّة في عالم السينما. إنه واحد من المخرجين القلائل في القرن الأول للسينما الذين يجبروننا على إعادة تحديد ماهية السينما وما يمكن أن تكونه. ليس هذا فحسب، فأفلامه تجعلنا ننفتح على سؤال أكبر أعمق، والذي يغدو شخصياً بالنسبة لكل منا: كيف نرى العالم في داخلنا وحولنا؟».‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية