تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


في رحيل التشكيلي عماد صبري..مقاربـات لونيـة واحتمالات تعبيرية وتقنية..

ثقافة
الأربعاء 8-1-2014
 أديب مخزوم

في زحمة أحداث الأيام المتوترة وألوانها الرمادية والسوداوية، مرَّ غياب الفنان التشكيلي عماد صبري، في صمت وتعتيم شبه كلي، باستثناء مانشر، على بعض صفحات الفيسبوك، بمناسبة خبر رحيله المفاجئ،

بأزمة قلبية حادة، رغم المسافة الطويلة التي قطعها الراحل في اقامة المعارض الفردية، والمشاركة في العديد من المعارض الجماعية الرسمية والخاصة، فأهوال الحروب جعلت العديد من الأحداث الأخرى في مرتبةٍ ثانوية.‏‏

عماد صبري غاب فجأة، ورحل كعاشقٍ متيم بالاختبار التشكيلي والتقني، فاللوحة التي تركها تمتلك مخزوناً تقنياً من ناحية تنويع المواضيع والمواد، من تلك التي تمنح السطح شفافية وشاعرية، الى تلك التي تعتمد طريقة تركيب طبقات اللون المدروس وصولاً الى تقديم النمنمة الزخرفية بتقنية الأحبار الصينية، ومن ثم فتح التجربة من جديد على احتمالات تعبيرية وتقنية والانتقال من وسيلة تشكيلية الى اخر ى.‏‏‏

فأهم مايمكن أن نلاحظه في لوحات عماد صبري في مراحله المختلفة، ذلك التنوع التقني، في تجسيده لأشكال مختلفة (إنسانية ومعمارية وحيوانية وصامتة وزخرفية وحروفية).. حيث اختبر خلال مسيرته الفنية الطويلة العديد من التقنيات والمواد وتنقل بين المواضيع المختلفة والمتنوعة. وإذا كان في أكثرية لوحاته يركز على استعادة مجد اللمسة اللونية الحديثة، فإنه في القسم الآخر من لوحاته قد أظهر المزيد من التعاطف مع تقنيات الرسم الواقعي الحديث.‏‏‏

فهو لم يكن من ضمن الظاهرة الارتدادية إلى الفنون العبثية والدادائية، بل كان أميناً لمساره الفني المتواصل في التحول من اسلوب ومن موضوع الى آخر، على الصعيدين التكويني والتلويني المتعاطف مع منطلقات الاتجاه الواقعي والمنبثق من أفكارٍ وهواجس وتجارب وتطلعات بعض فناني المدرسة الحديثة، ومع ذلك لم يكن واقعياً حسب المنهج التقليدي، كان واقعياً يستعرض منهجه التقني الحديث، بإضافة المزيد من السماكات واللمسات والاختبارات على سطح اللوحة.‏‏‏

رصانة تشكيلية وتقنية‏‏‏

ونلاحظ التنويع من خلال تغيير السطوح والمعالجات من لوحةٍ إلى أخرى، ويبرز التنويع أيضاً في طريقة معالجة الموضوع، وكان يذهب إلى الرصانة في لوحاتٍ أخرى.‏‏‏

وهكذا كان اللون يرق أو يتكاثف وتبرز الخطوط التي تُحدد الشكل أو تتراجع لمصلحة بروز المساحات اللونية.‏‏‏

ولقد ركز على حالات رسم الموضوع الواحد في معرض كامل (وعلى سبيل المثال معرضه في المركز الثقافي الروسي تركز حول موضوع القوارير) وكان في كل مراحله المتواصلة منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي، يبدأ وينتهي بهواجس اختبارية، معبرة عن الجوهر، بحيث يتخلص الموضوع من افقية مماثلة الشكل المرسوم بهدف تقديم لوحة فنية مفتوحة على تقنيات وتحولات وتبدلات ثقافة فنون العصر.‏‏‏

فعلى الصعيد التشكيلي والتقني، كان في بعض مراحله السابقة يهتم بتقديم ملامس عفوية مشغولة بمواد تأسيس اللوحة، وعلى خلاف ذلك ذهب إلى معالجة الموضوع احيانا اخرى، بتقشفٍ لوني، وتفاوت سطح اللوحة ما بين النعومة والخشونة، من دون أن يتجاوز الألوان المتقاربة على امتداد مساحة اللوحة، وصولا الى معالجة البنى الزخرفية بتقنية الاحبار الصينية.‏‏‏

ولقد طرح في معرضه (الحياة والموت) الذي أقامه خلال عام 2010 في آرت نينار، عدة قضايا جمالية وتقنية على اعتبار أن الراحل خاض خلال الثلاثين سنة الماضية، غمار البحث والاختبار التشكيلي المتواصل، وهذا ماوجدناه بشكل واضح في سلسلة معارضه الفردية، ومشاركاته الجماعية والتي أظهر من خلالها رغبات العمل في إطار الموضوع الواحد والاستفادة المطلقة في لوحاته من تعدد الخبرات والنتائج.‏‏‏

ولابد من الإشارة إلى أن لوحات المعرض (انجزت بين عامي 2003 و2005) وتركزت حول موضوع واحد هو الأسماك، بعد ان كان موضوع معرضه السابق في الثقافي الروسي القوارير، ويمكن اختصار مرحلة الأسماك بأنها تحمل نبرة تعبيرية رمزية لها دلالاتها الهادفة، إلى إظهار جدلية العلاقة بين الحياة والموت، فحيوية الحياة تظهر في عناصر الأسماك بأشكالها وألوانها المختلفة، أما الموت فيبرز في سكونية الهياكل العظمية السمكية، كأنه في هذه اللوحات يدمج بين دينامية الحياة ومباهجها وتراكمات التأمل، القادم من رواسب الإحساس بالموت المفاجئ، حيث لاحدود ولافواصل في اللوحة الواحدة بين دلالات الحياة وإشارات الموت والسكون والعدم.‏‏‏

فقد كان يركز لإظهار الحيوية والحركة التي نجدها في إيقاعات الأسماك بحركتها الدائبة، وهذا يساهم في إيجاد حركة تضاد عنيف مع سكونية بقايا الأسماك الميتة، ويعبر عن أقصى الحالات التعبيرية القادمة من تأملات أسماك لوحاته في إيقاعاتها الساكنة والمتحركة.‏‏‏

وما قدمه عماد صبري في هذه التجربة يمكن تسميته بمحاولات توضيحية تضفي المزيد من الاهتمام بالنسيج اللوني والخطي، في تأليف اللوحة الباحثة عن تعبيرية عقلانية برزانة خطوطها وببلاغة شاعريتها مقارنة مع لوحات عفوية سبق وقدمها في بعض معارضه الفردية والجماعية.‏‏‏

موضوع واحد‏‏‏

والمعرض على هذا طرح وبشيء من الدقة التشكيلية مسألة البحث عن تنويعات الموضوع الواحد، من خلال التركيز لإظهار التدرج اللوني أحياناً، في فضائية العناصر السمكية المتداخلة مع الأشكال النباتية المائية.‏‏‏

وكان يعمل في أحيان كثيرة لإبراز الوهج اللوني، الجانح بقوة نحو الشاعرية الصافية (إضاءات قوية) تحقق حركة توازن بين العناصر المجسدة في فراغ السطح التصويري.‏‏‏

ولقد اعتمد في تشكيل بعض لوحاته بخليط المواد التلوينية المختلفة (ميكست ميديا) وركز في أحيان كثيرة لإظهار بريق اللون الذهبي، في أماكن متفرقة من لوحته بإلصاق رقاقات أو قصاصات ورقية مُذهبة على سطح اللوحة أو بمعالجتها بتقنية الكولاج.‏‏‏

وفي تجسيده لأنواع مختلفة من الأسماك البحرية والنهرية، تخطى الرؤية التقليدية، وأضاف المزيد من المناخات اللونية الحاملة لوهج ضوئي بعيد عن الواقع ولصيق به في آن واحد، كما أنه وصل إلى معطيات التجاوز والبحث عن إيقاعات جديدة حين حوّل الأسماك في بعض لوحاته إلى فسحة زخرفية شرقية امتازت بخطوطها وبإيقاع تشكيلها العفوي والمتحرر (بالأسود والأبيض).‏‏‏

وفي لوحاته التي جسّد فيها الأشكال الصامتة والعمارة القديمة منح مواضيعه المزيد من الشاعرية الناتجة عن طريقة معالجة سطح اللوحة، وأكسب ألوانه حساسيات مختلفة ومتبادلة بين ماهو ذاتي وماهو قادم من رؤية الأشكال في المدى الواقعي الذي تراه العين (الفازات لاتأخذ لونها الأصلي وقد تصبح زرقاءأو خضراء) وهو في كل ذلك ابتعد عن اللمسة اللونية السريعة، وتعاطف مع الاتجاهات الفنية الحديثة الأقل انفعالية والأكثر عقلانية.‏‏‏

ويذكر أن الراحل من مواليد دمشق عام 1958 وهو حائز على الجائزة الثالثة من (مهرجان الثقافة والتراث) الحادي عشر في دمشق 2004، والجائزة التقديرية من (معرض دمشق القديمة) عام 2003 وغيرها.‏‏‏

facebook.com/adib.makhzoum‏‏‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية