تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


ســـــــورية الجميلــــــــة.. رسائل الحب الستيني (86)

ثقافة
الثلاثاء 14-7-2009
أسعد عبود

دفنها إلى جوار زهرة نرجس تشدّ العزيمة لتتجاوز شباطاً صقيعياً ماطراً.. انتشر النرجس حول القبر.. جذوره عرفت موطناً للحب كان يوم كانت عروقها تمتلئ دماً.. كأنه وجد في ذاك الحب ما لا يموت..

وكانت ولادة خرافية لأزهار تشرب من عروق جففتها الحياة..‏

رأيته يبكيها.. أول مرة في حياتي أراه يبكي.. خبأ وجهه كي لا يراه الخلق.. لكنهم بكوا جميعاً مشاركة له في حزنه ولأنهم رأوه يبكي..‏

يقولون: من السهل أن تُبكي الناس.. لكن من الصعب أن تُضحكهم... أقول لكم: البكاء يريح.. والضحك ينذر بالقادم..‏

سألته:‏

-حزنت عليها..؟!‏

< أتمنى لو متُّ من يومها..‏

كان قد مضت على وفاتها سنون... وأوصى..‏

عندما أموت اقبروني إلى جانبها..‏

-هل كان يحبها..؟! قالت:‏

< هل أنت جادّ في سؤالك..؟!‏

-أتخيلها حالة رومانسية وتعاطفاً من راحلة..‏

< هذا حب لا يقبل الشك..‏

-إذاً ليس حباً..‏

< كيف..؟!‏

-الحب فعل.. وإرادة.. وانتماء.. وكلها تقبل الشك..‏

< عندما يكون حباً فهو فعل وإرادة وانتماء لا يقبل أي منهما الشك..‏

-الحب حياة.. والحيّ متغيّر يكبر.. يصغر.. يقوى.. يضعف.. يشيخ.. يموت.‏

< ويبقى حباً..‏

-هذه رومانسية..‏

< اسمع الشرح والتفاصيل والحكي يقضي على الحب..‏

إذاً لنسكت.‏

في رسالة سابقة كتب:‏

أيها الراحل.. هيّا إلى مرج النرجس.. هناك عاشقة تنتظرك منذ أربعين عاماً..‏

أعتقد أن النرجس من فصيلة الزنبقيات.. هو بالأصل زهرة برية.. رائحتها عطرة جداً.. ويظهر بشكلين عادي ومضاعف زهرته أسمك وأكثر نشراً للعطر..‏

< علاء.. دائماً تجعل من نفسك أستاذاً عليّ.. تشرح الأزهار.. الأشجار.. الأحجار.. الأراضي.. البوادي.. الحيوانات.. يا أخي أنا قبلت أستذتك.. لكن.. أرجوك تخصص..‏

-أنا متخصص يا علا..‏

< حسن ما اختصاصك؟!‏

-أحبك!!‏

< هل هذا علوم أم جغرافيا؟!‏

-هذا كل شيء..‏

< جواب عاجز..‏

-أبداً.. أحبك وأريدك أن تحبيني دائماً.. ولذلك أريد أن أبقى متألقاً بعينيك.. فأبتكر لأفاجئك من كل الزوايا.‏

< يا علاء.. لا شيء يبقى دائماً..‏

-شيء.. شيء.. يا علا.. الحب ليس شيئاً!!‏

< لكنه يمضي..‏

-تمضي ساعاته ويبقى هو..‏

< ماذا لديك أيضاً عن النرجس؟..‏

صوت يرتفع.. غناء مع موسيقا.. إنه «الحجة».. فخور جداً بمسجلته.. هي الأولى التي تدخل القرية.. فخور جداً بدوره في نشر تكنولوجيا الاتصالات.. يزعم أنه أول من اشترى راديو ترانزستور.. وخسر جولة «المجاقرة» عندما اعترف أنه اشترى ذاك الترانزستور من شخص آخر في القرية..‏

< خسرت وسأدفع لك الرهان.. ماذا تريد؟‏

-ماذا لديك؟!‏

< باقة قرنفل..‏

-بل أريد النرجس..‏

ضحك من قلبه وقال:‏

< نرجس في عز الصيف؟!‏

أبو ميهوب لا يحب النرجس.. بصراحة هو لا يحب كل الورود.. ويستغرب لماذا يهدر الناس وقتهم للعناية بها.. ويرى: أنه لولا عناية الناس بالورود لنبتت وتفتحت لوحدها.. هم علموها الدلال..‏

قال أبو عمران:‏

النرجس ينبت لوحده..‏

قال أبو ميهوب:‏

زهرة ماكرة.. تظهر في الشتاء لتكون وحدها.. فيعشقها الناس..‏

-هل تعشقها..؟!‏

- أبداً.. ما فائدتها..؟! لا تؤكل ولا تشرب ولا يصنع منها مشروب.‏

قال فهد ممازحاً:‏

لكنها «تعرق» يا أبا ميهوب؟!‏

كأن «عرقها» أحرجه فسكت..‏

صوت مسجلة «الحجة» يرتفع.. «صباح تصدح».. وصوت علاء ينخفض.. علا ملّت الحديث.. لكنها لم تملّ النرجس.. تمنت لو يرجع علاء لحديثه عن الزهرة التي تحب..‏

قالت لي صبية:‏

< رسائلك الستينية ينقلها ساعي بريد مجنون..‏

-لماذا مجنون؟!‏

< مرة يغرّب ومرة يشرّق..‏

-ساعي البريد لا دور له..‏

< وأين ستحطّ بك الرحال؟!‏

رأيتها وفي يدها باقة نرجس امتلأت أسفاً ففشلت خطتي أن أفاجأها بها..‏

عاد الصيف ياعلا..‏

لم يعد من نرجس اهديه لك..‏

-لماذا تسبقنا الزهور..‏

دائماً تسبقنا.؟!‏

< ننشغل ببعضنا فتمضي.. ويقولون:عمرها قصير..‏

-يجب أن نواعدها‏

< دائماً تمضي وتعود..‏

وحبيبي هائم في الطرقات راعِ بين الغابات يبحث عما أحبه به.. وينقل الي - كثيراً ماينقل إلي - مذكرات يضعها في طرقاته مع أزهاره وأشجاره.. ومواشيه..‏

ومع قلبه..‏

ثم يتساءل:لماذا أحبه؟. a-abboud@scs-net.org

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية