تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر


أوتار.. سر السعادة يكمن في فنائها وعدم تكرارها

آراء
الأربعاء 8-7-2009
ياسين رفاعية

أحياناً تنتابني حالات مبهمة تجتاح النفس دون سبب ظاهر، وتباغتني في حياتي اليومية دون سابق إنذار، ولا أجد لها أي تبرير منطقي معقول..

ما مصدر هذا السأم؟ أفهم أن يتألم المرء حين يفقد عزيزاً ، وكم فقدنا في الآونة الأخيرة ،أو أخسر مالاً ،غالباً أخسر حين يطلب مني صديق وهو مستعجل مبلغاً من المال يحتاجه، يعرق أمامي خجلاً لأنه بحاجة إلى هذا المال على أن يرده بعد شهر أقطع من مصروفي اليومي المحسوب جيداً لئلا أحتاج أحداً، وأعطي هذا الصديق ما طلبه، على أساس أن الأصدقاء بعضهم لبعض، يمر شهر اثنان وثلاثة ولا يرد الصديق ما استدان فأطالبه فيمهل أسابيع عدة ، ومع ذلك لا يعيد لي ما استدانه مني إلى أن استغني عن ذلك المبلغ وأتوقف عن مطالبة الصديق، الذي يبدو أنه ارتاح إلى ذلك ، فلا يعد يهتم واتساءل بيني وبين نفسي عن هذه الحياة التي خلت مؤخراً من الاثارة والتشويق ، ولمجرد أن الدقائق تمر رتيبة بطيئة فهذا أمر غريب لا يستوعبه عقلنا، ولكن السأم هو مادة أيامنا وأحد ما تبقى من الحياة ،فالمشاعر الكيانية لا تنشأ عن حادث عارض أو طارئ خارجي بل يرجع كل ذلك إلى الوجود في صميمه وتظهر حقيقته وتلتصق بوصفها أعمق تعبير عن طبيعة الذات .‏

في الحقيقة أنا ككائن بشري أتأرجح دائماً بين الوجود والعدم، وفي نفس الوقت أتعفف عن مباذل الحياة اليومية وعن تكويني الميتافيزيقي.‏

أخرج إلى الشارع وأتأمل المحال التجارية، أقف طويلاً أمام المحال التي تعرض أزياء نسائية كثيرة الألوان.. وفي كل مرة يخترعون موديلات جديدة يسوقونها بالإعلانات ، وتخضع المرأة لهذا النوع من الابتزاز أما المحال التي تعرض بدلات أو أحذية للرجال، فهي محددة جداً والرجل - الحمد لله- لاينخدع بالإعلانات - وهي نادرة عادة بالنسبة لأزياء الرجال- ولا يشتري إلا ما يليق به ويناسبه، فيما المرأة تركض وراء كل موضة جديدة لتتابع حركة العصر السريعة وإن كانت هذه الأزياء لا تلبق بها.‏

غالباً ما أضجر من الأسواق فأعود إلى البيت متخماً بالملل والسأم، محاولاً القيام بأي عمل نافع ، الكتابة مثلاً وأحياناً الرسم ، لست رساماً بالمعنى الدقيق، بل مجرد هاوٍ ليس إلا.. وكثيراً ما أفرق ما رسمت لأن ما رسمته يبدو قبيحاً بالنسبة لي .. وأنقد نفسي في كل همل أقوم به.. هل فعلت الصح.. أم أن كل ما فعلته خطأ وفي فورة هذا التضاد أنتبه إلى بلادة العالم وفقر الروح يوحي باحتقار النفس، فأشعر أنني لن أرضى على فعل صدر عني، بل وياللغرابة لا أجرؤ على قراءة الصفحات التي كتبتها دفعة واحدة ودون شطب أي كلمة ، فأتثاءب ضجراً حتى لتكاد دموعي تتدحرج ثم استسلم لإغراء المرآة فأتأمل وجهي الذي شاخ وجبيني الذي تكاثرت فيه التجاعيد، كأنني بين ليلة وضحاها، كبرت دفعة واحدة خمسة وعشرين عاماً.‏

في حياتي المديدة كنت أتجنب الوقوع في فخ امرأة فأتهرب وتهربت كثيراً من نساء كن يعدني بالسعادة، لكن أكثر ما كنت أخاف منه أن تهجرني فجأة المرأة التي أحببتها ، وهذا حصل معي في كل مراحل عمري، كانت المرأة تهرب من حزني واسئلتي الكثيرة، كان الوجود ككل يشغلني باستمرار : لماذا خلقنا؟ لماذا سنموت .. ونندثر في قبورنا؟ هل صحيح أن هناك حياة أخرى؟‏

أين تقع هذه الحياة؟ في السماء ، تحت الأرض .. كنت أظنها في كوكب ما.. فإذا كل هذه الكواكب مجرد صخور تسبح في السماء؟‏

كل يوم أرنو من نافذة بيتي على نفس المشهد والمناظر المألوفة فأجد أن الضجر هو قلب الكينونة، فالمستقبل لا يخبئ لنا أي مفاجأة غير متوقعة ولا يكاد يختلف عن الحاضر، ننتظر ونترقب مجيئه ، لكن عندما يأتي أخيراً نجد أنه لا يقدم لنا أي جديد، وأنه كان هنا منذ مدة طويلة ، كما أن الماضي نفسه مثل اليوم ليس إلا.‏

يستحيل اللجوء إلى المستقبل الغامض، المموه، الرمادي، والذاكرة لا تحتفظ إلا بأصداء ميتة، ولا يبقى من الصور والأحاسيس ، التي عشناها بالأمس، سوى كلمات ورموز ووقائع مختصرة خالية من الروح، إذاً ، أنا محبوس في الحاضر ولا مهرب لي إلا إلى الأمام ولا إلى الوراء.‏

حياتنا متناقضة في كل مظاهرها تتمدد ثم تنحسر دون توقف حياة زئبقية ننمو ونكبر فيها، ولا نكاد نلاحظ أننا اقتربنا كثيراً من النهاية ، التي هي نهاية كل شيء البشر والشجر ، وما عرفناه في السابق هو حاضر منذ الأول ، مستمر إلى الأبد.‏

إن الحياة تمشي بنا على وتيرتها السريعة، فما إن نفكر أننا سننجز الآن شيئاً.. وعلى وشك الانتهاء منه يأتي الموت بعباءته السوداء الفضفاضة ، وبلمح البصر يكون كل شيء قد انتهى.‏

هكذا أتداول حياتي على دورة الزمن العادية، بعد هذه الومضات الفريدة، القصيرة الأجل، والتي أحرص عليها أشد الحرص وانتظرها بفارغ الصبر، رغبة مني في الحصول على حدث حقيقي ينبثق فجأة من أعماق الواقع الرتيب وينقذني من الضجر.‏

إنني أحب الظروف النادرة التي لايمكن استبدالها كتلك التي أمضيها بين ذراعي المرأة التي يشغفني وجودها.. ولكن يا للأسف سوف تغادرني بعد دقائق أو ربما بعد ساعة، وكنت دائماً في مثل هذه الحالة ألح عليها أن تبقى دقائق أخرى وأتشبث بهذه الدقائق بقوة.. وأنا أشعر أنها مشرفة على الزوال، دائماً السعادة لا تستمر طويلاً، وفي سرّ لذتها تكمن في فنائها وعدم تكرارها وعجزها عن الاستمرار والبقاء.‏

ربما هنالك ساعات نستطيع أن نفعل فيها ما نريد، أن نمضي إلى الأمام.. أن نتراجع إلى الوراء فهذا لا أهمية له.‏

بينما هناك ساعات أخرى تمضي بسرعة ونعرف أنها لا تتكرر، فإن فوتناها استحال علينا استعادتها من جديد.. وهنا تكمن مأساة الوجود.‏

 

E - mail: admin@thawra.com

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية